رمضان والصبر (1-2)

الحمد لله رب الأَرباب ومسبب الأَسباب، يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، أحمده سبحانه على ما قضاه وقدره، وأشكره على وافر نعمه وسابغ فضله، وصلى الله على سيد الخلق نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فإن رمضان المبارك مدرسة إيمانية يتعلم فيها المؤمنون دروسًا من الفضائل الحميدة، والخصال الكريمة، ويتربَّون فيها على الإِخلاص التقوى.

وذلك أن  الصيام يذكِّر المسلم بأمور عظيمة قد يغفل عنها في سائر أيامه، فتأتي هذه العبادة العظيمة لتفيقه من الغفلة، وتذكره من النسيان، وتعينه على ما تذكر، ومن أهم هذه الدروس التي يتلقاها المسلم من مدرسة الصيام ورمضان: الصبر، وما أدراك ما الصبر! تلك الخصلة الحميدة، والخلة الكريمة، لا يقوى عليها إلا الأفذاذ والعظماء، ولا يتحلى بها إلا الموافقون وأقوياء الإِيمان، فبين الصبر والصيام علاقة وطيدة، ورابطة وثيقة، وللصبر أحوال وأقسام وثمار ونتائج، مع هذه العلاقة وتلك الأَحوال والثمار نقف الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى:

من المعلوم أن الصيام امتناع عن الأَكل والشرب وسائر المفطرات والشهوات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فالصائم بهذه الحالة يمتنع عن ملذاته ويقهر نفسه، ويكبح نزواته، ويرتدع عن شهواته.

والنفس بطبيعتها ميّالة إلى ما تشتهيه، وتهواه، فإذا ما قهرها العبد واجه صعوبة من الصعوبات، فإذا تغلَّب عليها أفلح ونجا، وصار يتحكم في نفسه ولا تتحكم به، وعقله يغلب عاطفته، وإيمانه يسيطر على هواه، وهذا من ثمار الصيام.

والعبد نجح في هذا الدرس العظيم، وتقرّب إلى مولاه، فجمع بين حالين من أحوال الصبر، صبر على طاعة الله تعالى بصيامه، وصبر عن معصية الله تعالى بصيامه، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الوقفة الثانية:

إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس في هذه الحياة، ولم يتركهم سدى يعيشون في الأَرض كيف شاؤوا، لا يعرفون ربًّا، ولا يدينون بدين، ولا يتعاملون بخُلُق، خلقهم وكلّفهم وابتلاهم على هذا التكليف {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(1)، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2)، فكلهم الله سبحانه وتعالى بعبادته في هذه الأَرض التي استخلفهم فيها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(3).

وعبادة الله سبحانه: أمر ونهي، فعل وترك، قيام بأوامر الله سبحانه وتعالى، واجتناب لزواجره ونواهيه، ومن رحمته سبحانه أن دلّهم على الخير وسلبه؛ ليعرفوه ويقوموا به، وعرفهم الشر ليتركوه ويبتعدوا عنه، جعل الخير موصلًا إلى جنته ورضاه وحفّ ذلك بالمكاره، وجعل الشر موصلًا إلى عذابه وعقابه وحفّ ذلك بالشهوات؛ فَكُلُّ من عمل الخير وترك الشر يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة، صبر على فعل الطاعات، وصبر على ترك المعاصي والشهوات، وصبر على الأَقدار الجارية التي تخالف رغبات النفس وشهواتها.

فهذا الصبر عامل أساس، وعنصر مهم، ووسيلة لا غنى للمسلم عنها في السير في دربه في الحياة ليخرج منها سالـمًا غانمًا، فهل نعى هذا أيها المسلمون الكرام؟ فنجعله أمام أعيننا في جميع حالاتنا؛ فيسهل علينا فعل الطاعات، وترك السيئات؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الملك: 1 – 2]

(2) [العنكبوت: 2]

(3) [الذاريات: 56]



بحث عن بحث