قرائن الترجيح بين الروايات المختلفة(1-4)

 

ب - قرائن خاصة .

وهذه القرائن يصعب حصرها في عددٍ ، وإنَّما تعرف من كل حديثه بعينه ، وهي كثيرة ، فينبغي الحرص على أهمها ، وقد يدخل بعضها في القرائن الأغلبية .

ومن أهم هذه القرائن - تمثيلاً - مما قد يتكرر في أحاديث أخرى :-

1) رواية الراوي عن أهل بيته:

وبيان ذلك أن الإنسان أعلم بأهل بيته - غالباً -.

فإذا روى راوٍ حديثاً عن رجل من أهل بيته، وخالفه آخر فيه، فإن الأول أرجح من حيث هذه القرينة.

ومن شواهده قول ابن حجر - عن حديث : « لا نكاح إلا بولي »(1) - : «الاستدلال بأن الحكم للواصل دائماً على العموم من صنيع البخاريِّ في هذا الحديث الخاص ليس بمستقيم ، لأنَّ البخاريَّ لم يحكم فيه بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة ، وإنَّما حكم له بالاتصال لمعانٍ أخرى رجحت عنده حكم الموصول . منها أن يونس بن أبي إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولاً ، ولا شكَّ أن آل الرَّجل أخص به من غيرهم »(2) .

وقال ابن حجر أيضاً مبيِّناً سبب تخريج البخاريِّ لرواية معلَّة : « وترجَّح ذلك عنده بقرينة، كونها تختصُّ بأبيه فدواعيه متوفِّرة على حملها عنه »(3) .

2) الرواية بالمعنى:

ومن أمثلته ما رواه هشيم بن بشير عن الزُّهري حديث: « لا يتوارث أهل ملتين »(4) ، فقد رواه كلُّ أصحاب الزُّهري عنه بلفظ : « لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم »(5) .

قال أحمد : « لم يسمع هشيم من الزُّهري حديث علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : « لا يتوارث أهل ملتين شتى » ، قال أبي : وقد حدثنا به هشيم»(6).

وقال ابن حجر : « وقد حكم النَّسائي وغيره على هشيم بالخطأ فيه ، وعندي أنه رواه من حفظه بلفظٍ ظنَّ أنه يؤدِّي معناه . فلم يصبْ ، فإن الَّلفظ الذي أتى به أعمُّ من اللفظ الذي سمعه . وسبب ذلك أن هشيماً سمع من الزُّهري بمكة أحاديث، ولم يكتبها، وعلق بحفظه بعضها، فلم يكن من الضَّابطين عنه، ولذلك لم يخرج الشَّيخان عنه شيئاً ».

ويشهد لقول ابن حجر ما رواه عمرو بن عون عن هشيم قال : « سمعت من الزهري نحواً من مئة حديث ، فلم أكتبها »(7) .

ووقع هشيم بسبب الرِّواية بالمعنى في وهم آخر .

فقد روى سفيان بن عيينة قال حدثنا عمرو قال سمعت أبا فاتخة سعيد بن علاقة يقول سمعت ابن عباس يقول : « يصوم المجاور المعتكف » .

فحكى سفيان أن هشيماً يقوله عن عمرو عن أبي فاتخة أن ابن عباس قال : لا اعتكاف إلا بصوم .

قال سفيان : « أخطأ هشيم ، وهو كما قلت لك »(8) .

وقال ابن أبي حاتم : « سمعت أبي يذكر حديث عبد الرَّزَّاق عن معمر عن الزُّهري عن أنس أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أشار في الصَّلاة بأصبعه . قال أبي : اختصر عبد الرَّزَّاق هذه الكلمة من حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه ضَعُفَ فقدَّم أبا بكرٍ يصلي بالنَّاس فجاء النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث . قال أبي : أخطأ عبد الرَّزَّاق في اختصاره هذه الكلمة لأنَّ عبد الرَّزَّاق اختصر هذه الكلمة وأدخله في باب من كان يشير بأصبعه في التَّشهد وأوهم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أشار بيده في التشهد وليس كذاك هو … »(9) .

وقال التِّرمذي : « حدثنا محمود بن غَيلان حدثنا عبد الرَّزَّاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث"(10) . سألت محمداً عن هذا الحديث فقال : جاء مثل هذا من قبل عبد الرَّزَّاق وهو غلط، إنَّما اختصره عبد الرَّزَّاق من حديث مَعْمَر(11) عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان بن داود حيث قال : لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة »(12) .

ونقل ابن حجر عن شيخه العراقي قوله في شرح التِّرمذيِّ : « بأنَّ الذي جاء به عبد الرَّزَّاق في هذه الرِّواية ليس وافياً بالمعنى الذي تضمَّنته الرِّواية التي اختصره منها، فإنه لا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم لو قال سليمان : إن شاء الله لم يحنث أن يكون الحكم كذلك في حقِّ كل أحد غير سليمان، وشرط الرِّواية بالمعنى عدم التَّخالف، وهنا تخالف بالخصوص والعموم . قلت : وإذا كان مخرج الحديث واحدا فالأصل عدم التعدد …»(13) .

وقال ابن حجر في حديث : « قلت : هذا يوهم أن هؤلاء أرسلوه وليس كذلك ، فقد أخرجه الشيخان من رواية حماد بن زيد وسفيان بن عيينة ومسلم من حديث أيوب وابن جريج كلهم عن عمرو بن دينار موصولا ، وإنما أراد الدارقطني أن شعبة خالف هؤلاء الجماعة في سياق المتن واختصره ، وهم إنما أوردوه على حكاية قصة الداخل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بصلاة ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وهي قصة محتملة للخصوص وسياق شعبة يقتضي العموم في حقِّ كلِّ داخل، فهي مع اختصارها أزيد من روايتهم وليست بشاذة، فقد تابعه على ذلك روح بن القاسم عن عمرو بن دينار »(14) .

3) اختلاف المجلس:

ومعنى ذلك أن يروى الرَّاوي حديثاً موصولاً - مثلاً في مجلس، ثم يرسله في مجلس آخر، فيرجح الوصل لاختلاف المجلس، ولأنه ثبت أنَّ التَّلميذ لم يهم عليه في الوصل أو الإرسال.

ومن شواهده الحديث السَّابق حيث رواه شعبة وقال: « سمعت الثَّوريَّ يسأل أبا إسحاق... » فذكره مرسلاً(15) .

قال التِّرمذي عن رواية من وصله عن أبي إسحاق : « أصحُّ ، لأنَّ سماعهم من أبي إسحاق في أوقات مختلفة ، وإن كان شعبة والثوري أحفظ وأثبت من جميع هؤلاء ... ، فإن هؤلاء عندي أشبه، لأن شعبة والثوري سمعا هذا الحديث من أبي إسحاق في مجلس واحد... »(16) .

قال ابن رجب : « والذين وصلوه جماعة ، فالظَّاهر أنهم في مجالس متعدِّدة»(17).

وقال ابن حجر: « ولا يخفى رجحان ما أخذ من لفظ المحدِّث في مجالس متعدِّدة على ما أخذ عنه عرضاً في محل واحد »(18) .

ولم أقف على أمثلة واضحة أو صحيحة يمكن الجزم فيها بهذه القرينة.

وينبغي هنا التنبُّه إلى أمرين اثنين :

  1.   أنه لا تقبل دعوى تعدُّد المجلس - التي يتوصل بها البعض لقبول الزيادات - إلا بدليل . أما فتح باب الاحتمالات فسهلٌ على كل أحد .

قال ابن حجر مبيناً ذلك : « فإن قيل : إذا كان الرَّاوي ثقة ، فلم لا يجوز أن يكون للحديث إسنادين عند شيخه حدَّث بأحدهما مروياً وبالآخر من رأيه(19) .

قلنا : هذا التَّجويز لا ننكره ، لكن مبنى هذا العلم على غلبة الظَّنِّ وللحفَّاظ طريق معروفة في الرُّجوع إلى القرائن في مثل هذا ، وإنما يعوَّل في ذلك على النُّقَّاد المطَّلعين منهم»(20) .

وقال أيضاً : « إذا كان مخرج الحديث واحداً فالأصل عدم التَّعدُّد … »(21). وقال أيضاً: « فإن أمكن الجمع بالحمل على التَّعدُّد مع بعده وإلا فالصَّحيح الأول »(22).

  2.   أنَّ اضَّطراب الرَّاوي وتردُّده في ذكر الزِّيادة - مثلاً - في عدَّة مجالس مما يوجب التَّوقف في صحتها وقبولها منه، لا في ثبوتها عنه. وفرق بين الأمرين .

4) سعة رواية المختلف عليه:

ومعنى ذلك أن يُختلف على راوٍ كثير الرِّواية واسع الحفظ - كقَتادة والزهري ونحوهما - على وجهين من قِبَلِ أصحابه الثِّقات ، فيقبل الوجهان عنه لأجل هذا الأمر.

ولا يعني هذا عدم التَّرجيح لأنه هو الأصل كما سبق(23).

ومن أمثلته ما تقدَّم قبلُ في قرينة الحفظ(24) ، والخلاف في حديث ميمونة -رضي الله عنها- .

ومن ذلك أيضاً قول ابن حجر: « … الزُّهري صاحب حديث فيكون الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطَّراده في كل من اختلف عليه في شيخه إلا أن يكون مثل الزُّهري في كثرة الحديث والشُّيوخ »(25) .

وقال أبو حاتم : « كان أبو إسحاق واسع الحديث ، يحتمل أن يكون سمع من أبي بصير ، وسمع من ابن أبي بصير عن أبي بصير ، وسمع من العيزار عن أبي بصير …» . بينما ضعَّف أبو زرعة الوجه الأخير فقط عنه(26) .

وقال أبو حاتم أيضاً : « وفي حديث قَتادة مثل ذا كثير ، يحدِّث بالحديث عن جماعة…»(27) .

 


(1) - أخرجه أَبُو داود في السنن كتاب النكاح / باب في الولي (2076) والترمذي في جامعه كتاب النكاح / باب 14 (1101) من حديث أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2) - النكت لابن حجر (2/606) .

(3) - هدي الساري (ص534) .

(4) - أخرجه النسائي في الكبرى (4/82) والطحاوي في شرح المعاني (3/266)

(5) - أخرجه البخاري: كتاب الحج / باب توريث دور مكة (1588) ومسلم في أول كتاب الفرائض (1613) .

(6) - العلل لعبد الله (2/341) .

(7) - تاريخ بغداد (14/86) والتهذيب (4/280) .

(8) - المعرفة ليعقوب (3/110) .

(9) - العلل لابن أَبي حاتم (1/160) .

(10) - أخرجه أحمد (2/309) والترمذي في جامعه (1532) وابن ماجة (2104) وابن حبان في صحيحه (4341) .

(11) - أخرج روايته البخاري (4944) ومسلم (1654) .

(12) - العلل الكبير (2/656-ترتيبه) والجامع (1532) .

(13) - فتح الباري (11/737) .

(14) - هدي الساري (ص516) .

(15) - جامع الترمذي (1102) .

(16) - المصدر السابق والكفاية للخطيب (ص254) .

(17) - شرح العلل (1/425) .

(18) - النكت لابن حجر (2/607) .

(19) - في الأصل: مراراً ، ولا معنى لها .

(20) - النكت لابن حجر (2/876) .

(21) - فتح الباري (11/737) .

(22) - العجاب (ص273) .

(23) - ص 34.

(24) - ص 37.

(25) - الفتح (13/18) .

(26) - العلل لابن أَبي حاتم (1/102) .

(27) - العلل لابن أَبي حاتم (1/236) .



بحث عن بحث