الحكم البليغة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع(3-4)

 

سماحة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد 


ثالثاً: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالخيف بمنى:

وتتضمَّن:

1- دعاءَه لأهل الحديث دعاءً اختصَّهم به دون الأُمة؛ وذلك يدلُّ على شرف الحديث وأهله.

2- أنَّ حاملَ الحديث ليس من شرْطه أن يكون فقيهًا، فرُبَّما كان مَن حُمِل إليه الحديثُ أفقهَ منه.

3- أنَّ علماء الأُمَّة صنفان: صِنف هم أهل الحديث والرِّواية، وصِنف هم أهل الفقه والدِّراية، فأهل الحديث كالصيادلة، وأهل الفقه كالأطباء.

4- الإخلاص في العمل، والنُّصح لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم.

روى ابن ماجه في سُنَنه، قال: حدَّثنا محمد بن عبدالله بن نُمير، حدَّثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالسلام، عن الزُّهْري، عن محمد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه، قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالخَيْف من مِنًى، فقال: ((نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فبلَّغها، فرُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ - يعني: قلب مؤمن -: إخلاص العمل لله، والنصيحة لوُلاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تُحيط من ورائهم)).

قوله: ((نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فبلَّغها))، قال الأصمعي: هو بالتشديد، وقال النووي: هو قول الأكثر، وقيل بالتخفيف، والمعنى: خصَّه الله بالبهجة والسرور؛ لِما رُزِق بعلمه ومعرفته من القدْر والمنزلة بين الناس في الدنيا، ونعَّمه في الآخرة؛ حتى يُرى عليه أثرُ الرَّخاء والنعمة، وخصَّ مُبلِّغ الحديث كما سَمِعه بهذا الدعاء؛ لأنه سَعَى في نضارة العلم، وتجديد السُّنة، فجازاه بالدعاء بما يُناسب حاله، وهذا يدلُّ على شرف الحديث، وفضْله، وعُلوِّ درجة طلاَّبه؛ حيث خصَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعاءٍ لَم يُشرِك فيه أحدًا من الأُمَّة، ولو لَم يكن في طلب الحديث وحِفظه وتبليغه فائدةٌ سوى أن يَستفيد بركةَ هذه الدعوة المباركة - لكفى ذلك فائدةً وغُنمًا.

وقال محيي السُّنة:

اختُلف في نقْل الحديث بالمعنى، وإلى جوازه ذهَب الحسن والشعبي والنَّخَعي، وقال مجاهد: انُقصْ من الحديث ما شِئتَ، ولا تَزِد، وقال سفيان: إن قلتُ حدَّثتكم كما سَمِعتُ، فلا تصدِّقوني، فإنما هو المعنى، وقال وكيعٌ: إن لَم يكن المعنى واسعًا، فقد هلَك الناس، وقال أيُّوب عن ابن سيرين: كنتُ أسمع الحديث من عشَرة، واللفظ مختلِف، والمعنى واحد.

وذهَب قومٌ إلى اتِّباع اللفظ؛ منهم: ابن عمر، وهو قول القاسم بن محمد، وابن سيرين، ومالك بن أنس، وابن عُيينة، وقال محيي السُّنة: "الرواية بالمعنى حرامٌ عند جماعات من العلماء، وجائزة: عند الأكثرين، والأَوْلى اجتنابها"؛ اهـ.

قوله: ((فرُبَّ حامل فقهٍ غيرِ فقيهٍ))؛ أي: إن راويَ الحديث ليس الفقهُ من شرْطه، إنما شرطه الحِفظ، وعلى الفقيه التفهُّم والتدبُّر، وقوله: ((ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه((؛ أي: فرُبَّ حاملِ فقهٍ قد يكون فقيهًا، ولا يكون أفقهَ، فيَحفظه ويُبلِّغه إلى مَن هو أفقه منه، فيَستنبط منه ما لا يَفهمه الحامل، أو إلى مَن يَصير أفقهَ منه؛ إشارة إلى فائدة النقل والداعي إليه؛ قال الطِّيبي: هو صفةٌ لمدخول رُبَّ، استَغنى بها عن جوابها؛ أي: رُبَّ حامل فقه أدَّاه إلى مَن هو أفقه منه.

قوله: ((ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ))؛ يعني: قلب مؤمن: هو بفتْح الياء وكسْر الغين من الغِل، وهو الضِّغْن والحقد، يُريد: لا يَدخله حقدٌ يُزيله عن الحقِّ.

قوله: ((إخلاص العمل لله))، فالعمل لا يُقبل إلاَّ إذا كان خالصًا لله، نقيًّا مما يَشُوبه، قُصِد به وجهُ الله، فإن قَصد بعمله غيرَ الله - كتعلُّمه العلم؛ لنيْل وظيفةٍ، أو طلب جاهٍ - فعملُه لا يُقبل؛ لتخلُّف النيَّة الصالحة، بل لا بدَّ أن يكون العملُ لله، وعلى سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالعمل لا يُقبَل إلاَّ إذا انبَنى على أصلين؛ الأوَّل: تجريد الإخلاص لله، وهذا معنى قوله: ((إنما الأعمال بالنيَّات))، والثاني: تجريد المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى قوله: ((مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))، فالعمل لا بدَّ أن يكون خالصًا صوابًا، فالخالص يكون لله، والصواب يكون على سُنة رسول الله.

وقال الفُضيل بن عياض في قوله - تعالى -: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [هود: 7].

قال: "أخلصُه وأصْوبُه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصُه وأصوبُه؟ قال: أخلصُه أن يكون لله، وأصوبُه أن يكون على سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العمل إذا كان خالصًا، ولَم يكن صوابًا، لَم يُقبل، وإذا كان صوابًا، ولَم يكن خالصًا، لَم يُقبل؛ حتى يكونَ خالصًا صوابًا، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ، والنية بغير إخلاص رياءٌ، والإخلاص من غير تحقيق هباءٌ.

قوله: ((والنُّصح لولاة المسلمين ولزوم جماعتهم))؛ النُّصح: عبارة عن إرادة الخير للمنصوح له، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "النصيحة تشمل خِصال الإسلام والإيمان والإحسان، ومعنى النصح لأئمَّة المسلمين: معاونتُهم على الحقِّ وطاعتهم فيه، وتذكيرهم ونَهْيهم في رِفْق ولُطفٍ، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وتنبيهم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهَفوة، وغرْس محبَّتهم في قلوب الرعيَّة، وردُّ القلوب الشاردة إليهم، وغرْس محبَّة الرعيَّة في قلوبهم، وعدم الخروج عليهم بلزوم جماعة المسلمين".

 



بحث عن بحث