الوقفة الحادية عشرة

الإسلام دين الحوار

إن اختلاف البشر سنة كونية، وتفرقهم في أرجاء المعمورة على شكل أقوام وأعراق ومذاهب سنة كونية أيضًا، لا يمكن رفضها أو محاربتها، يقول الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات)، ويقول في موضع آخر: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

وانطلاقًا من الإيمان بهذه السنن الكونية، وأن الله تعالى خلق البشرية أممًا وفرقًا وأعراقًا، وانطلاقًا مما أحدثه الحدث من آثار فكرية ومواقف وحوارات، فإن من الخير بيان محاور عدة منها:

الأول:  لا إكراه في الدين:

من الخطأ الجسيم أن يظن أحدهم أن الأفكار والعقائد تتغير بالقوة والإكراه، أو يمكن إجبار الآخرين على اعتناق فكر معين قسرًا وقهرًا، فربما يظهر الإنسان هذا التغير والاعتناق ظاهرًا ليدفع عن نفسه الأذى، ولكنه يبقى على يؤمن به من الداخل، ومن أجل ذلك كان مبدأ الإسلام مع أصحاب العقائدة والأفكار المخالفة مبدأ واقعيًا يتلائم مع العقل والفطرة الإنسانية، وهو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).

ومن هنا ندرك أن لكل أمة من الأمم ولاءها ويراءها فهي توالي من كان على ملتها وتعادي من كان خلافها، وتلك الصحيفة عملت بهذا المبدأ.

وأمة الإسلام لها ولاؤها وبراؤها، وهو مبدأ عقدي يجب الإيمان به، انطلاقًا من النصوص التي لا تحصى، ولكن لا يعني هذا الولاء والبراء أن يكره فردًا وأمة على اعتناق الدين قسرًا. كما لا يعني السكوت عند خدش الدين أو ما يتعلق به.

الثاني: الحوار بالحكمة الموعظة:

إن اتباع أسلوب الحكمة والموعظة الهادئة في مناقشة الملل الأخرى هي من الوسائل الناجعة للعمل الدعوي وهداية هذه الأمم إلى الإسلام، مهما كان المدعو عنيدًا وصلبًا في رأيه واعتقاده، فإن القلوب مجبولة على حب من يحسن الكلام إليها، ويطلب لها الخير بالحوار الهادئ والصادق، وهو الأسلوب علّمه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، وقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).

بل إن الخطاب الرباني في القرآن الكريم جاء بتسمية المشركين من اليهود والنصارى بأهل الكتاب، وهم الذين أفسدوا في الأرض ووقفوا في وجه هذا الدين، بل إنهم في تاريخهم القديم قتلوا أنبياءهم والصالحين من أبنائهم، رغم كل ذلك يأمر الله تعالى نبيه بمخاطبتهم بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

*     *      *

وقد سطّر الله تعالى لنا في القرآن ما ينبغي أن يكون عليه الحوار في صورته العملية عند إرسال موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

مع سابق علم المولى جل وعلا بأنه لن يتذكر ولن يخشى، ولكنه المنهج القويم الذي يجب أن تتحلى به الأمة في تعاملها مع الأمم الأخرى في حوارها.

الثالث: نبذ الغلو في التعامل:

ومما ينبغي الإشارة إليه ألا يجرنا الحدث إلى الغلو في التعامل فهو من الوسائل التي نهى عنها الشارع، يقول الله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، ويقول عليه الصلاة والسلام: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا.

فالتنطع والغلو والتشدد من الصفات المذمومة في الإنسان سواء كان في الدين وتطبيق أحكامه، أو كان في السلوك والتعامل مع الآخرين، وعلى العكس من ذلك فإن اللين والرفق في التعامل يعدّ من الأساليب المؤثرة والمثرة في حياة الإنسان، يقول عليه الصلاة والسلام:  (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه).

وإزاء حدث الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يجب ألا يأخذ المسلمين الجهل والتطرف في اتخاذ القرارات غير الشرعية واتباع السبل الملتوية في التعامل مع هذا الحدث، مما يؤثر سلبًا على رسالته في الحياة، بل عليه أن يكون على مستوى عال من المسؤولية، وتكون خطواته وقراراته مدروسة من الناحية الشرعية، ومن ثم ينطلق نحو التنفيذ والتطبيق.

الرابع: نبذ السباب والشتائم:

إن من أهم مبادئ الإسلام وأخلاقياته في التعامل مع الملل الأخرى من أهل الكتاب وغيرهم، هو عدم سبابهم وشتم عقائدهم وأفكارهم، وهذا المبدأ علّمه الله تعالى المؤمنين في كتابه المبين بقوله: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).

لأن هذا الأسلوب لا يغني عن الحق شيئًا، فهو لا يفيد في هداية الناس، وليس له أثر على ضعف العدو ودحره، بل إنه سلاح السفهاء والعاجزين الذين لا يملكون الرصيد الكافي لمواجهة أفكار الآخرين، وهذا هو الدافع الرئيس الذي جعل من هذه الصحف الكافرة أن تنشر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإساءات والشتائم، لأن هؤلاء القوم عجزوا عن مواجهة المد الإسلامي القادم إليهم من كل جانب، فما كان منهم إلا أن يخرجوا حقدهم وغيظهم عبر هذه الصور المسيئة.

*     *      *

ومن هنا يجب على المختصين أن يجندوا أنفسهم لهذا الحوار الذي تجدده هذه المواقف، وأن ينبري لهذا الحوار من كان على قدر كاف من العلم الشرعي، والقدرة الحوارية، وأساليب القوم فقد قال عليه الصلاة والسلام عندما بعث معاذًا إلى اليمن:  "إنك تقدم على قوم أهل كتاب" بمعنى أنهم على قدر من العلم فيحتاجون إلى قدرة خاصة في دعوتهم.

ومن المعلوم أنه ليس كل الأمة تنبري للحوار. ولا تطفأ جميع الأساليب ليبقى الحوار ولكنه أسلوب يقوم به القادرون من المختصين. والله غالب على أمره.



بحث عن بحث