ثمرات الوسطية

 

1/ الاستقامة :

قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }هود112، فبين أن الاستقامة ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود في كل شيء وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ }فصلت6، وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً }الجن16 .

وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم ).

سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئا. يريد الاستقامة على محض التوحيد.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما: استقاموا: أدوا الفرائض، وقال الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله.

قال الراغب: استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}فصلت30.

وقال القرطبي : والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة .

وقال ابن القيم: الاستقامة تتعلّق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنِّيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.

وقال ابن القيم - أيضًا -: فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة في النِّيَّات والأقوال والأعمال . ثم قال: فالاستقامة: كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدّين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصّدق، والوفاء بالعهد . وقال ابن القيّم أيضاً: الاستقامة ضد الطّغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء .

وهذه المعاني متقاربة، ويفسّر بعضها بعضًا.

وأختم الكلام عن الاستقامة بما قاله ابن القيّم في مدارج السالكين مما يتضح معه علاقة الاستقامة بالوسطية، وأنَه لا استقامة بلا وسطية ، ولا وسطية دون استقامة.

قال أبو إسماعيل الهروي: وهي - أي الاستقامة - على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، لا عاديًا رسم العلم، ولا متجاوزًا حدّ الإخلاص، ولا مخالفًا نهج السنَّة.

قال ابن القيم شارحًا قول الهروي: هذه درجة تتضمن ستة أمور: عملا واجتهادًا فيه، وهو بذل المجهود، واقتصادًا، وهو السلوك بين طرفي الإفراط - وهو الجور على النفس - والتفريط بالإضاعة. ووقوفا مع ما يرسمه العلم، لا وقوفا مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص. ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة. فبهذه الأمور الستة تتمّ لأهل هذه الدرجة استقامتهم، وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة، إما خروجًا كليا، وإمّا خروجًا جزئيا.

والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا، وهما:

الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنة، فإنَّ الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنَّة، أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصًا على السنَّة، وشدَّة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النّفس، ومجاوزة حدّ الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة، والزّيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه، حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر .

وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف. وذلك من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى شيئا وتنظر في القدح فلا ترى شيئا وتنظر في الريش فلا ترى شيئا وتتمارى في الفوق .

وقال بعض السَّلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشّيطان فيه نـزغتان: إما إلى تفريط، وإمّا إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيّهما ظفر، زيادة أو نقصان . مدارج السالكين ،ج2،ص107

وهذا الكلام عن الاستقامة هو عين الوسطيَّة وجوهرها.

فالوسطية تعني استقامة المنهج، والبعد عن الميل والانحراف. فالمنهج المستقيم، أو بتعبير القرآن الكريم ( الصراط المستقيم ) هو الطريق السوي الواقع في وسط الطرق الجائرة عن القصد إلى الجانبين ، فإنا إذا فرضنا خطوطاً كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية ، ومن ضرورة كونه وسطاً بين الطرق الجائرة كون الأمة المهديّة إليه أمة وسطاً بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة. 

ومن هنا علم الإسلام المسلم أن يسأل الله الهداية للصراط المستقيم كل يوم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة، هي عدد ركعات الصلوات الخمس المفروضة في اليوم والليلة. وذلك حين يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته فيقول داعياً ربه: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ{7}} الفاتحة.

وقد مثّل النبي صلى الله عليه وسلم للمغضوب عليهم باليهود، وللضالين بالنصارى، ولا شك أن كلاً من اليهود والنصارى يمثلون الإفراط والتفريط في كثير من القضايا. فاليهود قتلوا الأنبياء، والنصارى ألّهوهم .   

وهناك شعور لدى بعض النَّاس أن الوسطيَّة تعني التنازل - ولو قليلا- عن حقيقة الأمر والنّهي، ولقد عبَّر أحد الباحثين عن هذا الشّعور الذي يختلج في صدور بعض النَّاس، حيث طرح سؤالا ورّد عليه، وممّا قاله : هل المقصود بالوسطيَّة مرونة الأمَّة، بحيث لا تصطدم بالأفكار والمبادئ الأخرى عند الالتقاء بها، بل قابليّتها للأخذ والعطاء والتّنازل عن جزء ممّا عندها، من أجل تنازل الطّرف الآخر، والالتقاء عند نقطة وسط تُرضي جميع الأطراف . - انظر: الوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر ص 14.

إنَّ من ملامح الوسطيَّة، بل وضوابطها الاستقامة، ولذلك فمن ادَّعى الوسطيَّة مع خروجه عن الاستقامة، فهذه ليست الوسطيَّة الشّرعية في شيء، بل هي وسطيَّة نسبيَّة غير التي نتحدَّث عنها.

 

2/ الأمان :

والوسطية تمثل منطقة الأمان ، والبعد عن الخطر ، فالأطراف عادة تتعرض للخطر والفساد بخلاف الوسط ، فهو محمي ومحروس بما حوله ، وفي هذا قال الشاعر :

 كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت    **    بها الحوادث حتى أصبحت طرفا  

وكذلك شأن النظام الوسط ، والأمة الوسط .                     

 

3/ القوة :

والوسطية دليل القوة ، فالوسط هو مركز القوة. ألا ترى الشباب الذي يمثل مرحلة القوة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة ؟ والشمس في وسط النهار أقوى منها أول النهار وآخره .

 

4/ الخيرية :

والوسطية دليل الخيرية ، ومظهر الفضل والتميز ؛ ولذا نرى رئيس القوم في الوسط والأتباع من حوله ، ونجد التوسط دائماً خيراً من التطرف . ووسط  الشيء غالبا أحسن مكان فيه ، مثال ذلك أن وسط الوادي خير مكان فيه وأكثره كلأ ومرعى ، ووسط الدابة للركوب خير من أطرافها لتمكن الراكب فيه .ولهذا قال العرب في حِكَمهم : خير الأمور الوسط .

قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}البقرة143.

وقال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}آل عمران110.

وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها ) .

أخرجه الترمذي (5/211) رقم (3001). وابن ماجه (2/1433) رقم (4288) وأحمد (5/5). قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووافقه الألباني كما في المشكاة رقم (6285).

قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى :

يقول تعالى : إنما حَوّلناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل . والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ }الحج78 ) . ـ انظر: تفسير ابن كثير ج1ص90.     

وقال في تفسيره لقوله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} : يعني خير النّاس للنّاس، والمعنى : أنّهم خير الأمم وأنفع النّاس للنّاس، إلى أن قال: كما في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: خيارًا - انظر: تفسير ابن كثيرج1 ص391 .

وقال البغوي في تفسيره: صار معنى النّفاسة والعزّة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية ـ  تفسير البغوي،ج1،ص90 .

وفي الصحاح: واسطة القلادة الجوهر الذي هو في وسطها وهو أَجودها.

وقد جاءت الخيرية في السنة بمعنى الأفضل كما في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديثه ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة قال:  جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، وقال آخرهم : خذوا خيرهم . فكانت تلك فلم يرهم حتى جاؤوا ليلة أخرى فما يرى قلبه والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فتولاه جبريل ثم عرج به إلى السماء . صحيح البخاري ج3ص1308 رقم7079.

وهذه الأمَّة ما فتئت خير أمَّة أُخرجت للنّاس، حتى تركت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

واستدل الرازي لمن قال أن هذا القول أولى في تفسير الوسط بأنه موافق لوصف الأمة بالخيرية في قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}آل عمران110، فقال: واعلم أن هذا كلام مستأنف ، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات ، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات .

وههنا سؤالات :

السؤال الأول : من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم؟ .

والجواب : قال القفال : تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد ، وأقواها ما يكون بالقتال ، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات : الكفر بالله ، فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع ، وتخليصه من أعظم المضار ، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع ، لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه و ( لا إله إلا الله) أعظم المعروف ، والتكذيب هو أنكر المنكر .

ثم قال القفال : فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف ، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة ، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم .

السؤال الثاني : لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدماً على كل الطاعات؟

والجواب : أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة ، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل ، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم ، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير ، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان .

السؤال الثالث : لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه .

والجواب : الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوّة ، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً ، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقاً لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول ، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة .

 إنَّ هذه الخيريَّة مسألة نسبيَّة بالنسبة للأمَّة، فقد ترتفع لتبلغ الذّروة، كما كانت الحال في جيل الصّحابة والقرون المفضّلة، وقد تنحسر في مجموعات وأفراد، كما هي في القرون المتأخرة .

 وذلك تبعًا لوجود مقومات الخيريَّة وصيانتها وأهمها:

1- الإيمان بالله: قال - سبحانه -: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: من الآية 110). فقرن الله - جلّ وعلا - بين خيريَّة هذه الأمَّة والإيمان به - تعالى -، بل جعل الإيمان هو سبب الخيريَّة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فرع عن الإيمان، وأثر من آثاره.

2-الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أوجبه الله على من قبلنا، ولكنهم فرَّطوا وضيَّعوا {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{79}} (المائدة: الآية 78 ، 79). ونجد مصداق خيريَّة هذه الأمَّة لقيامها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أنَّه منذ بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،  إلى يومنا الحاضر وهذا الرّكن العظيم لم ينقطع ولم يترك كما فعل بنو إسرائيل.

وقد نجد ضعفًا في زمان من الأزمنة أو مكان من الأمكنة، ولكنَّه لا يصبح حالة مستقرَّة، ولا تعدم الأمَّة آمرًا أو ناهيًا ولو كانوا قلَّة قليلة، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم،( لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتَّى يأتي أمر الله وهم كذلك) .

5/ العدل :

فمن معاني الوسطية التي وصفت بها الأمة في الآية الكريمة ورتبت عليها شهادتها على البشرية كلها: العدل، الذي هو ضرورة لقبول شهادة الشاهد ، فمن لم يكن عدلاً فإن شهادته مردودة ، أما الشاهد العدل فهو المرضي بين كافة الناس .

وتفسير الوسط في الآية بالعدل مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الوسط هنا بالعدل . البخاري (3161) .

وعلّق ابن حجر على تفسير العدل بالوسط أنه لا ينافي تفسير الوسط بمعانيه الأخري فقال:" لا يلزم من كون الوسط في الآية صالحا لمعنى التوسط أن لا يكون أريد به معناه الآخر كما نص عليه الحديث ، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية" . ونقل هذا المعنى في تفسير الوسط عن عدد من الصحابة والتابعين منهم أبو هريرة وابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة .

 والعدل والتوسط والتوازن عبارات متقاربة المعنى ، فالعدل في الحقيقة توسط بين الطرفين المتنازعين أو الأطراف المتنازعة دون ميل أو تحيز إلى احدها . فيعطي كلا منها حقه دون بخس ولا جور .

وقال المفسرون في قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}القلم28، أي: أعدلهم . وقال ابن عباس وغيره : أي أعدلهم وخيرهم . وقال القرطبي: أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم .

قال الرازي: إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين . وقال أيضاً: إن أعدل بقاع الشيء وسطه ، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال ، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة .  

وقال أبو السعود: والوسط في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة ثم استعير للخصال البشرية المحمودة ... لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعواز ، والأوساط محميّة محوطَة كما قيل ، واستشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي :

    كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت  **   بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

ولكون تلك الخصالِ أوساطاً للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ .

واستُدِل لهذا المعنى من الشعر بقول زُهَيْر :

     هم وسط ترضى الأنام بحكمهم    **   إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .



بحث عن بحث