حكم صيام يوم عرفة لمن هو بعرفة؟ (2)

 

القول الثاني: يستحب صومه في حق الحاج إن كان لا يضعفه عن الوقوف والدعاء، وإن أضعفه فيكره له الصوم، ([1]) قال المتولي: إن كان الشخص ممن لا يضعف بالصوم عن الدعاء وأعمال الحج فالصوم أولى له وإلا فالفطر، وقال الروياني في الحلية: إن كان قويا وفي الشتاء ولا يضعف بالصوم عن الدعاء فالصوم أفضل له قال وبه قالت عائشة وعطاء وأبو حنيفة([2]) وجماعة من أصحابنا هذا كلام الروياني. وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار قال الشافعي: في القديم لو علم الرجل أن الصوم بعرفة لا يضعفه فصامه كان حسنا. واختار الخطابي هذا([3]) واستحبه إسحاق، واختاره الآجري وحكى الخطابي عن أحمد مثله([4])

 

أدلتهم:

أما أدلة القول الثاني فقد احتجوا بالأحاديث المطلقة أن صوم يوم عرفة كفارة سنتين.

 

وقد حمل الجمهور ذلك على أن هذا لمن ليس بعرفة([5]).

 

كما استدلوا بالآثار الواردة عن السلف فقد ورد أن ابن الزبير وعائشة يصومانه وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص فعن الحسن قال: لقد رأيت عثمان بن أبي العاصي يرش عليه ماء في يوم عرفة وهو صائم، وكان إسحاق بن راهويه يميل إليه وكان عطاء يصومه في الشتاء دون الصيف، وورد عنه أنه قال: صيام يوم عرفة كصيام ألف يوم، قال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء([6])

 

والإجابة عن ذلك ما قاله ابن عبد البر:جاء عن عمر أنه لم يصم يوم عرفة وهذا عندي على أنه بعرفة لئلا تتضاد عنه الرواية في ذلك، وما ورد عن عطاء، وعثمان ابن أبي العاصي فيحتمل أن يكون بغير عرفة أيضا([7]).

 

الدليل الثالث: لأن كراهة صومه إنما هي معلة بالضعف عن الدعاء، فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة([8])

 

الدليل الرابع: لما فيه من الجمع بين القربتين([9]) وأجيب بأن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم هو السنة.

 

القول الثالث: يكره صومه بعرفة وهو قولجماعة من أصحاب الشافعي([10]) والمالكية([11]) وبعض الحنابلة([12]) وقالت الحنفية: يكره كراهة تنزيه، لإخلاله بالأهم في ذلك الوقت، اللهم إلا أن يسيء خلقه فيوقعه في محظور([13]).

 

أدلتهم:

أما القول الثالث فدليله: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة"([14]).

 

كما استدلوا بما ورد عن أبي نجيح قال: سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة، قال: (حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، فأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه.)([15])

 

وأجيب عن الحديثين:

بما قال النووي: (لا دلالة فيهما لمن قال بالكراهة، لأن الأول ضعيف، والثاني ليس فيه نهي، وإنما هو خلاف الأفضل كما قاله الشافعي والجمهور)([16])

 

كما استدلوا بأن فضيلة صوم هذا اليوم مما يمكن استدراكها في غير هذه السنة ويستدرك عادة فأما فضيلة الوقوف والدعاء فيه لا يستدرك في حق عامة الناس عادة إلا في العمر مرة واحدة فكان إحرازها أولى ([17]) .      

 

واستدلوا أيضًا بأن من كرهه فإنما كرهه من أجل الضعف عن الدعاء والعمل في ذلك الموقف والنصب لله فيه([18]).لأن بالحاج حاجة شديدة إلى تقوية جسمه لصعوبة العمل وكثرته في ذلك الموقف وربما ضعف بالصوم فقصر عن بعضه فلذلك كره([19]).

 

واستدلوا أيضًا بأنه يوم عيد لأهل عرفة، كما قال شيخ الإسلام، ولذلك كره لمن هو بعرفة صومه([20])، وقد ورد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب"([21])

 

وأجاب الجمهور عن هذا بقال أبو عمر ابن عبد البر: هذا حديث انفرد به موسى بن علي عن أبيه وما انفرد به فليس بالقوي وذكر يوم عرفة في هذا الحديث غير محفوظ وإنما المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق أيام أكل وشرب([22]).

 

وبعد فالذي يترجح والله أعلم- ما قاله ابن القيم: الصواب أن الأفضل لأهل الآفاق صومه ولأهل عرفة فطره، لاختياره صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه وعمل خلفائه من بعده بالفطر، وفيه قوة على الدعاء الذي هو أفضل دعاء العبد([23]).


([1]) بدائع الصنائع (2-79)، البحر الرائق (2-278)، شرح فتح القدير (2-350) التمهيد (21-164)، المجموع (6-403) روضة الطالبين(2-387)

([2]) انظر بدائع الصنائع (2-79).

([3]) المجموع (6-403)

( [4]) الإنصاف (3-344)، الفروع (3-82)

([5]) التمهيد (21-161)، شرح النووي (8-2).

([6]) انظر التمهيد (21-158)، المجموع (6-403)، شرح النووي (8-2) المغني (3-58)

([7]) انظر التمهيد (21-158) بتصرف.

([8]) انظر المغني (3-58)

([9]) بدائع الصنائع (2-79)

([10]) مغني المحتاج (1-446) المجموع (6-402) روضة الطالبين (2-387)

([11]) مواهب الجليل (2-401).

([12]) شرح النووي (8-2)، الإنصاف (3-344)، كشاف القناع(2-340)، الفروع(3-82).

([13]) شرح فتح القدير (2-350)

([14]) رواه أبو داود (2-326) ورواه النسائي (2-155)، وأحمد (2-446).

([15]) رواه الترمذي (3-125)وقال:حديث حسن، ورواه أحمد في مسنده (2-47)، ورواه النسائي (2-155)بإسناد فيه مجهول.

([16]) المجموع (6-403)

([17]) بدائع الصنائع (2-79)

( [18]) انظر التمهيد (21-164)، مواهب الجليل (2-401)

([19]) مواهب الجليل (2-401)

(([20] انظر زاد المعاد (1-62)

([21]) رواه أبو داود (2-320)، النسائي في الكبرى (2-155)، الترمذي (3-143) وقال: حديث عقبة حسن صحيح، وأحمد (4-152).

([22]) التمهيد (21-163).

([23]) انظر حاشية ابن القيم (7-77)



بحث عن بحث