حكم صيام يوم عرفة لمن هو بعرفة؟ (1)

 

   أجمع العلماء على أن يوم عرفة جائز صيامه للمتمتع إذا لم يجد هديا([1])، فعن عروة عن عائشة قالت: ( صيام المتمتع ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن فاته صام أيام منى)([2]).

 

واختلفوا في صومه للحاج على أقوال:

القول الأول: استحباب فطر يوم عرفة بعرفة للحاج وهذا مذهب أبي حنيفة([3]) ومالك([4]) والشافعي وجمهور أصحابه([5]) وقول الحنابلة([6]) وجمهور العلماء وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان بن عفان وابن عمر والثوري([7]).

 

أدلتهم:

استدل الجمهور بما يلي:

* عن أم الفضل بنت الحرث أنا أناسا اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه([8]). ورويا أيضا مثله من رواية أختها ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنه فقد أخرجا في الصحيحين من حديث كريب عن ميمونة بنت الحرث أنها قالت: إن الناس شكوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فأرسلت إليه يعني ميمونة بحلاب لبن وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون([9]) .

 

قال ابن القيم: قيل: يحتمل أن تكون ميمونة أرسلت وأم الفضل أرسلت كل منهما بقدح، ويحتمل أن يكونا مجتمعين فإنها أختها فاتفقنا على الإرسال بقدح واحد فينسب إلى هذه وإلى هذه([10]).

 

قال أبو عمر: (محمل هذا الحديث عندنا أنه كان بعرفة وقد روي ذلك منصوصا وإذا كان بعرفة فالفطر أفضل تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم )([11]).

 

واعترض على هذا الدليل بـ: إنما أفطر النبي صلى الله عليه وسلم لكون ذلك اليوم يوم جمعة، وقد نهى عن إفراده بالصوم، فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيدا لنهيه عن تخصيصه بالصوم.

 

الجواب: فطره صلى الله عليه وسلم لكونه يوم عرفة لا لكونه يوم جمعة([12]).

 

ومن التعليلات:

1: لأنه مسافر، والفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله([13]).

2: قيل لأنهم أضياف الله وزواره([14]).

3: ولأنه أرفق بالحاج في آداب الوقوف ومهمات المناسك([15])، لأن الحاج ضاح مسافر والمراد بالضاحي: البارز للشمس، لأنه يناله من ذلك مشقة ينبغي أن لا يصوم معها([16]).

 

4: وحتى يتقوى بفطره على الدعاء لأن الصوم يضعفه ويمنعه من الدعاء في هذا اليوم المعظم، الذي يستجاب فيه الدعاء، في ذلك الموقف الشريف الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه به، فكان تركه أفضل([17]) وقد قال صلى الله عليه وسلم " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة"([18]) قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ( أفضل زمن الدعاء هو آخر هذا اليوم، فإذا صام الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم وهو في كسل وتعب، لاسيما في أيام الصيف وطول النهار وشدة الحر، فإنه يتعب وتزول الفائدة العظيمة الحاصلة بهذا اليوم، والصوم يدرك في وقت آخر.)([19])

 

* ومن الأدلة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة([20]) وتخصيصه بعرفة دليل على أن غير عرفة ليست كذلك([21]).

 

وهذا الحديث وإن كان فيه شيء من الضعف إلا أنه تعضد بما سبق، وكذا بما ورد من الآثار عن الصحابة.

 

  كما وردت بعض الآثار عن السلف فيها دلالة على من قال باستحباب الفطر للحاج في يوم عرفة منها:

 

عن أبي نجيح قال: سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة، قال: (حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، فأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه.)([22]) وهذا يوضح لك أن ذلك كان في الحج بعرفة ([23]).

 

عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سألت سعيد بن المسيب عن صوم يوم عرفة فقال: كان ابن عمر لا يصومه فقلت: غيره، فقال: حسبك به شيخا ([24])

 

وحدث هوذة أبو الأشهب ابن خليفة بن عبدالله البصري عن أبيه عن جده قال: مر عمر بن الخطاب بأبيات بعرفات فقال: ما هذه الأبيات قلنا لعبد القيس فقال لهم خيرا ودعا لهم ونهاهم عن صوم يوم عرفة ([25]).

 

عن عكرمة عن ابن عباس أنه أفطر بعرفة وأتي برمان فأكله([26]).

 

قال إسماعيل عن ابن ابي أويس عن مالك أنه كان يأمر بالفطر يوم عرفة في الحج ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك اليوم مفطرا.

وقال الشافعي: أحب صوم يوم عرفة لغير الحاج فأما من حج فأحب إلي أن يفطر ليقويه الفطر على الدعاء قال أبو عمر: قول الشافعي أحسن شيء في هذا الباب ([27]).

 


( [1]) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1- )التمهيد (21-164)،الإنصاف (3-344) كشاف القناع (2-340)

([2]) سنن البيهقي الكبرى (4-298).

([3]) شرح فتح القدير (2-350)

([4]) التمهيد (21-158)، كفاية الطالب (1-678)

([5]) مغني المحتاج(1-446) المجموع(6-402)

([6]) المغني (3-58)، الفروع (3- 82)، وكشاف القناع (3- 240).

([7]) شرح النووي (8-2)

([8]) رواه البخاري ك:الحج ب:الوقوف على الدابة بعرفة (2-598). رواه مسلم ك:الصيام ب: استحباب الفطر للحاج يوم عرفة (2-791)

([9]) رواه البخاري ك:الحج ب: صوم يوم عرفة (2-701 ) رواه مسلم ك:الصيام ب: استحباب الفطر للحاج يوم عرفة (2-791)

([10]) حاشية ابن القيم (7-77).

([11]) التمهيد (21-157).

([12]) انظر زاد المعاد (1-168) بتصرف في المعنى.

([13]) زاد المعاد (1-168).

( [14]) كشاف القناع (2-340).

([15]) شرح النووي (8-2).

([16]) المجموع (6-403).

([17]) انظر المجموع (7-402)، المغني (3-58)

([18]) موطأ مالك (1-214)، سنن البيهقي الكبرى )4-284)

([19]) الشرح الممتع (6-471).

([20]) رواه أبو داود(2-326) والنسائي في الكبرى (2-155)وابن ماجه(1-551) وأحمد (2-304) وابن خزيمة(3-292) عن أبي هريرة t وفي إسناده مهدي بن حرب الهجري، وهو مجهول، انظر: التلخيص (2-213).

([21]) التمهيد (21-157).

([22]) رواه الترمذي (3-125)وقال:حديث حسن، ورواه أحمد في مسنده (2-47)، ورواه النسائي (2-155)بإسناد فيه مجهول.

([23]) التمهيد (21-159).

([24]) مصنف ابن أبي شيبة (3-196)

([25]) التاريخ الكبير (6-34)

([26]) رواه الإمام أحمد (6-338)، سنن البيهقي الكبرى (4-284)

([27]) التمهيد (21-158).



بحث عن بحث