قصة في لزوم الأدب مع الأمراء والقادة

 

   عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَـــــــــالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟» قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «ادْفَعْهُ إِلَيْهِ»، فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ، فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ، فَقَالَ: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلًا، أَوْ غَنَمًا، فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ، وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ، وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ»(1)

   

   ورواه الإمام أحمد رحمه الله بسياق أتم من هذا، عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا غَزْوَةً إِلَى طَرَفِ الشَّامِ فَأُمِّرَ عَلَيْنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ فَانْضَمَّ إِلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرَ فَأَوَى إِلَى رَحْلِنَا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ إِلا سَيْفٌ لَيْسَ مَعَهُ سِلاحٌ غَيْرَهُ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا فَلَمْ يَزَلْ يَحْتَلْ حَتَّى أَخَذَ مِنْ جِلْدِهِ كَهَيْئَةِ الْمِجَنِّ حَتَّى بَسَطَهُ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ وَقَدَ عَلَيْهِ حَتَّى جَفَّ، فَجَعَلَ لَهُ مُمْسِكًا كَهَيْئَةِ التُّرْسِ، فَقُضِيَ أَنْ لَقِينَا عَدُوَّنَا فِيهِمْ أَخْلاطٌ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ مِنْ قُضَاعَةَ فَقَاتَلُونَا قِتَالا شَدِيدًا وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ وَسَرْجٍ مُذَهَّبٍ وَمِنْطَقَةٍ مُلَطَّخَةٍ ذَهَبًا وَسَيْفٌ مِثْلُ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى الْقَوْمِ وَيُغْرِي بِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْمَدَدِيُّ يَحْتَالُ لِذَلِكَ الرُّومِيِّ حَتَّى مَرَّ بِهِ فَاسْتَقْفَاهُ فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ بِالسَّيْفِ فَوَقَعَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفَتْحَ أَقْبَلَ يَسْأَلُ لِلسَّلَبِ وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّاسُ بِأَنَّهُ قَاتِلُهُ فَأَعْطَاهُ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبِهِ وَأَمْسَكَ سَائِرَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى رَحْلِ عَوْفٍ ذَكَرَهُ فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَلْيُعْطِكَ مَا بَقِيَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَمَشَى عَوْفٌ حَتَّى أَتَى خَالِدًا فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ، قَالَ خَالِدٌ: اسْتَكْثَرْتُهُ لَهُ، قَالَ عَوْفٌ، لَئِنْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ لَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعَثَهُ عَوْفٌ فَاسْتَعْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا خَالِدًا وَعَوْفٌ قَاعِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَمْنَعُكَ يَا خَالِدُ أَنْ تَدْفَعَ إِلَى هَذَا سَلَبَ قَتِيلِهِ، قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ادْفَعْهُ إِلَيْهِ قَالَ: فَمَرَّ بِعَوْفٍ فَجَرَّ عَوْفٌ بِرِدَائِهِ فَقَالَ: لِيَجْزِي لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ: لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكِي أُمَرَائِي، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلا أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا ثُمَّ تَخَيَّرَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَةَ الْمَاءِ وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ. 

شرح المفردات (2):

(قتل رجل من حمير) هذه القضية جرت في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة.

(سلبه) السلب: يشمل كل شيء وجد مع المقتول وقت القتل؛ من ملبوس، ومركوب، وسلاح ونحوه.

(فجر بردائه) أي جذب عوف برداء خالد ووبخه على منعه السلب منه.

(ثم قال هل أنجزت لك ما ذكرت لك) أي قال عوف بن مالك: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد كان قال لخالد: لابد أن أشتكي منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(فاستغضب) أي صار عليه السلام مغضباً.

(هل أنتم تاركو لي أمرائي) بالبعد عن الإساءة إليهم، وانتهاك حرمتهم، وإطلاق الألسنة في أعراضهم، بما يجرئ العامة عليهم.

(استرعى إبلا) أي طولب برعيها.

(ثم تحين سقيها) أي طلب ذلك الراعي وقت سقيها حتى يسقيها في وقت معين.

(فصفوه لكم وكدره عليهم) أي: أن الرعية يأخذون صفو الأمور، فتصلهم أعطياتهم بغير نكد، وتبتلى الولاة بمقاساة الأمور وجمع الأموال من وجوهها وصرفها في وجوهها، وحفظ الرعية والشفقة عليهم، وإنصاف بعضهم من بعض ثم متى وقع إشكال، أو عتب في بعض ذلك توجه على الأمراء دون الناس.

 

من فوائد الحديث(3) :

1-  استحقاق القاتل سلب المقتول، واختلف العلماء في استحقاق القاتل السلب، هل يشترط فيه قول الإمام : ( من قتل قتيلًا فله سلبه)، أو يستحقه مطلقًا، قال الإمام ذلك أو لم يقله؟.

ومنشأ الخلاف هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا، هو الاختلاف في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم:  ( من قتل قتيلًا فله سلبه) [متفق عليه] هل هو حكم؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائماً إلى تنفيذ الإمام، أو هو فتوى؟ فيكون حكماً عاماً غير محتاج إلى تنفيذ الإمام.

2-  أن على ولي الأمر النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة، فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحاً عن أحوالهم مستكشفا؛ ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم إن عسفوا ، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا .

3- في الحديث الزجر عن معارضة الأمراء ومغاضبتهم والشماتة بهم، للأدلة الكثيرة الدالة على وجوب طاعتهم في غير معصية الله.

4-  أنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – منع القاتل من السلَب لمّا أساء شافعه على أمير السرية، فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع، لما في انتهاك حرمة القادة والولاة من المفاسد الكثيرة.


(1) رواه البخاري، رقم  (3124)، ورواه مسلم، رقم  (1753).

(2) النووي، شرح صحيح مسلم (12/51)، وابن حجر، فتح الباري (6/223).

(3) انظر: المرجعين السابقين.

 



بحث عن بحث