المبحث الثاني: نشأته

نشأ الاستشكال مع نشأة الإنسان، بل مع نشأة التكليف، والاستشكال يكون محموداً ويكون مذموماً، فيذم إذا كان بدافع التكبر والإعراض، أو بقصد الهوى وضرب النصوص بعضها ببعض، ويكون محموداً إذا كان بقصد الاستعلام والاستهداء في فهم النصوص للعمل بها.

وأول من استشكل إبليس حينما عارض أمر ربه تعالى وطغى واستكبر عن طاعة مولاه عز وجل، وقد خلق الله تعالى الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وحباه نعمة العقل التي ميزته ورفعته على الحيوانات والجمادات؛ ولكنه مع ذلك ضعيف عاجز }وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً{(النساء: من الآية 28)، فجاءت شريعة الله تعالى لهذه الأمة شريعة كاملة محكمة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجاء الأمر باتباعهما والسير في فلكهما }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ (الأنعام: 153)، فنتيجة لقصور أفهام الناس واختلافهم في ذلك وتقصيرهم أحياناً، نشأ الاستشكال لبعض نصوص الشرع.

وقد وقع شيء من ذلك في عصر الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي r.

فأخرج البخاري بسنده إلى ابن أبي مليكه أن عائشة زوج النبي r ورضي الله عنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي r قال: "من حوسب عذب"، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت: أوليس يقول الله تعالى: }فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً{ (الانشقاق: 8)، قالت: فقال: "إنما ذلك العرض؛ ولكن من نوقش الحساب يهلك"(1).

وهذا يعلى بن أمية t يقول لعمر t: } فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا{(النساء: من الآية101) فقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله r عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"(2).

وهكذا نجد الاستشكال كان موجوداً في الصدر الأول، ولا عجب في ذلك ولا عيب ما دام القصد صحيحاً والنية صافية في طلب العلم وفهم مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يقع الامتثال والتعبد على الصورة المرضية.

ثم خفت نور النبوة ودخل الناس في الأهواء المضلة والآراء الفاسدة، وبزغت البدع على اختلاف أشكالها، ودخل الإسلام من يتسمى باسمه ويبطن الكيد له فبدءوا يثيرون الشبه، ويضربون الأحاديث بعضها ببعض، ويلبسون على الناس أحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم، فبدأ علماء الحق في بيان الحق وتجلية الصواب للناس ودحض مزاعم المبتدعة ونحوهم، وصنفوا التصانيف النافعة وولد (علم مشكل الحديث)، وبدأ تأصيل الضوابط والقواعد التي يجب سلوكها عند توهم التعارض بين نصين من نصوص الشرع المطهر.

وأشير هنا إلى أن قضية الإشكال تكون أحياناً نسبية، فقد يشكل على زيد ما يراه عمرو واضحاً لا إشكال فيه، وهذا لاختلاف مدارك الناس وعقولهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها"(3).

 



([1]) أخرجه البخاري في العلم: باب من سمع شيئاً فراجعه حتى يعرفه رقم: (103).

([2]) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين: باب صلاة المسافرين وقصرها رقم: (686).

([3]) مجموع الفتاوى (17 / 307).



بحث عن بحث