الحديث الرابع والعشرون                        

المؤمن لا ينجس

 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت، ثم جئت، فقال: (أين كنت يا أبا هريرة؟) قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك، وأنا على غير طهارة، فقال: (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس) متفق عليه(1).

في هذا الحديث فوائد مهمة، نستعرضها في الوقفات الآتية:

الأولى: قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب) الجنابة دالة على معنى البعد، ومنه قوله تعالى: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ)، وقوله (فانخنست منه) بالنون والخاء المعجمة، والسين المهملة، الانخناس: الانقباض والرجوع، قال القزاز: انخنست منه أي مضيت عنه مستخفياً. وروي أيضاً: (فانبجست منه) بالجيم من الانبجاس، وهو الاندفاع، أي اندفعت عنه،  ويؤيد هذا ما جاء في رواية أخرى: (فانسللت منه).

وقوله: (كنت جنباً): أي كنت ذا جنابة، وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر، والمؤنث، والاثنين، والجمع.

وقوله (فذهبت فاغتسلت) الغسل بضم الغين: اسم الاغتسال الذي هو تعميم البدن بالماء، والغسل بإسكان الغين هو الماء الذي يغتسل به.

وقوله: (سبحان الله): التسبيح معناه التنزيه، ويراد به هنا التعجب من إطلاق أبي هريرة النجاسة، وقال الصنعاني نقلاً عن ابن الكمال: انفعال عما خفي سببه.

وقوله: (إن المؤمن لا ينجس) يقال: نَجَس ونَجُس بالفتح والضم.

الثانية: استنبط بعض أهل العلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- تعظيم أهل الفضل، والصلاح، والعلم، والتقى، وينبغي أن تكون مجالستهم على أحسن الهيئات.

الثالثة: دل الحديث على أن الجنابة ليست نجاسة تحل بالبدن، قال ابن دقيق العيد - رحمه الله-: (والحديث دلّ بمنطوقه على أن المؤمن لا ينجس، فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن، والمشهور التعميم، وبعض الظاهرية يرى أن المشرك نجس في حال حياته؛ أخذاً بظاهر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، ويقال للشيء: إنه نجس بمعنى عينه نجسة، ويقال فيه إنه نجس بمعنى أنه متنجس بإصابة النجاسة له، ويجب أنه يحمل على المعنى الأول، وهو أن عينه لا تصير نجسة؛ لأنه لا يمكن أن يتنجس بإصابة النجاسة، فلا ينفي ذلك) اهـ. ففهم من ظاهر الحديث ذات المؤمن لا تنجس، فتخرج عنه حالة التنجس التي هي محل الخلاف.

الرابعة: دل الحديث على استحباب الطهارة لملابسة الأشياء العظيمة، وهذا يؤخذ من إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لقول أبي هريرة، فلم يعترض على بعده، وإنما اعترض على الحكم بالنجاسة فقال: (إن المؤمن لا ينجس).

الخامسة: استدل بعض أهل العلم بالحديث على طهارة الميت، وذلك لقوله: (إن المؤمن لا ينجس)، فقوله شامل للحي والميت.

السادسة: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على جواز تأخير الغسل من الجنابة؛ وذلك لكون أبي هريرة - رضي الله عنه- لم يغتسل حال إصابته الجنابة، ولم يعترض على ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن يستحب أن يغتسل من الجنابة حال حصولها، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

السابعة: يؤخذ من الحديث أيضاً أنه ينبغي استئذان التابع للمتبوع في الانصراف، حيث أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي هريرة - رضي الله عنه- ذهابه من غير علمه، ولا شك أن ذلك من حسن الأدب، فإذا أراد شخص أن يفارق آخر فليستأذن منه ويعلمه بذلك.

 



(1)      رواه البخاري في كتاب الغسل باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس 1/109 رقم 283.



بحث عن بحث