الإمام البلقيني وأسباب الورود (3)

تقسيم أسباب الورود عند الإمام البلقيني:

القسم الثاني: السبب الذي لا ينقل في الحديث:

قال البلقيني: "وقد لا ينقل السبب في الحديث، أو ينقل في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناء به…ومن ذلك حديث: (أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة)(1) .رواه البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

 وقد ورد في بعض الأحاديث، أنه رد على سؤال سائل، وهذا أسنده ابن ماجه(2) في سننه، والترمذي في الشمائل(3)، من حديث عبد الله بن سعد، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيما أفضل: الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال:(ألا ترى إلى بيتي، ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة)، أخرجه ابن ماجه، وهذا لفظه من حديث شيخه أبي بكر بن خلف، وأخرجه الترمذي في الشمائل، عن عباس العنبري، عن عبد الرحمن بن مهدي بسنده.. إلا أنه قال: عن حرام بن حكيم، وعندما ننظر في هذا الحديث، نجد أن السؤال قد صحب ببيان حالة أخرى، نبه إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها تدعيم لهذا الحكم في الحديث، من أفضلية صلاة التطوع في البيت، وهي التي جاءت في صيغة هذا لاستفهام، الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليقرر قرب بيته من المسجد، ومحبته لصلاة التطوع في بيته، مع قرب المسجد منه إلا في الصلاة المكتوبة.

ومن ذلك حديث: (من صلى قاعدا فله نصف أجر القائم)(4)، رواه عمران بن حصين وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث عمران في صحيح البخاري.

وأما سببه فرواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، عن معمر عن الزهري، أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قدمنا المدينة، فباء لنا وباء من وعك المدينة شديد، وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سبحهم، جلوسًا، فقال: (صلاة الجالس نصف صلاة القائم)، قال: فطفق الناس حينئذ يتجشمون القيام.(5)

قال عبد الرزاق عقيب هذا: أخبرنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة فحم الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون قعودا فقال: (صلاة القاعد نصف صلاة القائم)، فتجشم الناس الصلاة قياما.(6)

 والطريق الثاني أجود، فإن الزهري لم يسمع عبد الله بن عمرو، وأيضًا فقد صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ما قد يخالف ظاهر ذلك، وهو ما رواه مسلم وغيره من حديث هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة)، قال: فأتيت فوجدته يصلي جالسا، فوضعت يدي على رأسي، فقال: مالك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدا، قال: (أجل ولكن لست كأحدكم)(7)، فظهر من هذا الحديث أن عبد الله بن عمرو، لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، بخلاف ما يشعر به ظاهر حديث عبد الرزاق، ولعله سمعه من بعض الصحابة أولا، فلا تنافي.

وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقاعد في الصلاة نصف أجر القائم).(8)

 ولم يتعرض في هذا الحديث لذكر السبب، وما سبق من السبب، يستفاد منه أن هذا النصف لمن صلى وبه بعض مرض لا يلحقه حرج بالقيام، ويظهر من هذا السبب أن الصلاة كانت في المسجد وذلك لأحد أمرين:

(1)  إما لأن الظاهر من حال المهاجرين إذ ذاك، أنهم لا بيوت لهم بالمدينة، وهذا إنما يستفاد بذكر السبب المذكور.

(2)  أن تقريرهم على ذلك لبيان الجواز، وحديث عبد الله بن سعد السابق نص في تفضيل صلاة النافلة في بيوت المدينة، على صلاة النفل بمسجد المدينة.

وحديث: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه)(9)، جاء في رواية (غير رمضان)، ورواه أبو هريرة، وهذا الحديث في الصحيحين والسنن.

وأما سببه: فرواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل السلمي يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده فسأله عما قالت، قال: يا رسول الله أما قولها: يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال: فقال: (لو كانت سورة واحدة لكفت الناس)، وأما قولها: يفطرني فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: (لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها) وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت عرف لنا ذلك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال: (فإذا استيقظت فصل). أخرجه أبو داود في سننه(10)، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه(11).

وفي اللفظ المخرج في سنن أبي داود والحاكم وغيرهما: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يومئذ»، وفيه دلالة تشعر بأن مبدأ هذا الحكم، وسماعهم له، كان ذلك اليوم على هذا السبب، ومعنى ذلك أن البحث عن أسباب ورود الحديث ظهرت مبكرة، ولجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم، لكي يتوجه النص الوجهة الصحيحة، فإذا ارتبط الصيام بإذن الزوج، فليس ذلك عاما، وإنما يخص النافلة التي يتسع المجال فيها بما يشق على الزوج، وهنا يضيع حق من حقوقه برغبة الزوجة في صيام التطوع، والذي قد تبالغ فيه."

توصيف ما ذكره البلقيني في أسباب الورود:

1-أهمية أسباب الورود في استنباط الحكم الشرعي

2-لم يفرد البلقيني الأسباب بمؤلف مستقل، وإنما خصص له بابا من أبواب علوم الحديث، ولكن كثرة الأمثلة التي ذكرها وتقسيماته تعد مؤلفا مستقلا

3-إشارة البلقيني إلى لزوم إفراد هذا العلم بمصنف مخصوص.

4-تقسيم البلقيني أسباب الورود إلى أسباب تذكر في الحديث نفسه وأسباب لا تذكر في الحديث نفسه

5-التنوع في الأمثلة أفاد تقسيمات مفيدة في فهم هذا الفن

6-تعليقات البلقيني على الروايات أفادت تحريه في ثبوت الرواية قبل الأخذ بها في سبب الورود.

7-غالب الأمثلة التي ذكرها البلقيني كانت في صورة سؤال وجواب.

8-أفادت الأمثلة المذكورة عند البلقيني أهمية تجميع الطرق لمعرفة السبب الحقيقي في الورود وإن تعددت الروايات.

9- رتب البلقيني أسباب الورود بذكر الحديث المرفوع اولا ثم الإتباع بذكر السبب.

10- طريقة البلقيني أفادت في كيفية الجمع بين الروايات وكيفية استنباط الحكم منها مع تعددها.

 

(1) - متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان،كتاب صلاة الليل (731) ،كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله (6113) ،كتاب الاعتصام والسنة بكتاب الله، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعينه (7290) ،مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد (781)

(2) - سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في التطوع في البيت (1378)

(3) - الشمائل للترمذي رقم (298)

(4) - أخرجه البخاري: كتاب الجمعة، باب صلاة القاعد (1115)، باب صلاة القاعد بالإيماء (1116) 

(5) - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4120)

(6) - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4121)

(7) - أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما وبعضها قاعدا (735)

(8) - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4122)

(9) - متفق عليه: أخرجه البخاري: البيوع، باب قول الله تعالى (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) (2066)، كتاب النكاح، باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعا (5192)، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه (5195)، مسلم: كتاب الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026)

(10) - سنن أبي داود: كتاب الصوم، باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها (2458)

(11) - مستدرك الحاكم (1/602) ، وقال ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في ترجمة صفوان بن المعطل (2/442) : إسناده صحيح



بحث عن بحث