يقول الأستاذ عمر عبيد حسنه: (والمشكلة كل المشكلة قد تكون في هذا الفقه الغائب - الذي هو فقه التنزيل - الذي يمنحه سبب النزول والورود، ذلك أن الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة، شاملة لجميع الأحوال والظروف، التي يكون عليها الناس، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكن تبقى المشكلة المطروحة هي: الفقه بكل حالة، وما يناسبها من الأحكام في هذه المرحلة، وتحضيرها لما بعدها من المراحل، في طريق التدرج والترقي للوصول إلى الكمال.

فالأحكام الشرعية أشبه ما تكون بالأدوية المتوفرة لكل الأدواء الممكنة الوقوع، والحالات التي قد يكون عليها المريض، لكن تبقى المشكلة، أو الفقه المطلوب والغائب هو: أي دواء من الأدوية يحتاج إليها الحال، والمرض الذي نعاني منه؟

إن الغفلة عن إدراك أبعاد سبب النزول والورود، أصاب عملية الاجتهاد والتجديد، أو فقه التنزيل في مقتل، وجعل الكثير من الاجتهادات هي أقرب للتجريدات النظرية، منها إلى البصارة والفقه العملي الميداني، وجعلنا ننزل النص أو الحكم الشرعي على غير محله، وتوهمنا أن كل حكم يصلح لكل الأحوال، أو أنه ينزل بإطلاق دون مراعاة الشروط والظروف وملابسات الحال، حتى أصبحنا نوقع النّسخ في غير موقعه، وننزل أحكام وخطاب الحرب والمعركة على ساحات السلم، والدعوة، والبلاغ، ونعطل الكثير من الأحكام، على اعتبار أنها كانت تمثل حالة كان عليها المجتمع الإسلامي الأول، في مراحل تحويله إلى الإسلام، ثم تجاوزها إلى ما فوقها، فأصبحت منسوخة أو معطلة، دون أن ندري أن خلود القرآن والسنة، يعني خلود المشكلات التي عرضا لها، والحلول التي قدماها، وأن الأمة في تاريخها الطويل، سوف تتعرض لحالات كثيرة من السقوط والنهوض، والهزيمة والنصر، والضعف والقوة، وأن لكل حالة حكمها، وفقهها، وأنه لا يكفي حفظ النصوص وفهمها بعيدًا عن أسباب نزولها وورودها، التي تعين على فهم الحال التي تتنزل عليه.

وبمقدار ما نحتاج إلى تجريد النص من قيود الزمان والمكان وامتلاك القدرة على تعدية الرؤية إلى الأشباه والنظائر، وقياس المستجد الذي لا نص فيه على المشابه الذي فيه نص وحكم في ضوء مقاصد الدين وكلياته العامة، بمقدار ما نحتاج إلى فقه المحل واستطاعاته وقدرته وما يلائمه من النصوص والأحكام.

فالقضية الاجتهادية ذات أبعاد متعددة وحالات مختلفة، وقد تكون المشكلة، أو الإشكالية التي يعاني منها العقل المسلم، بشكل عام، أو المعادلة الصعبة التي لابد من حلها وتصويبها، حتى يستقيم الحال، أن الكثير من الذين يفقهون النص يجهلون العصر، وأن جُلَّ الذين يفهمون العصر يجهلون فقه النص، وأنه على الرغم من أن خطاب التكليف في الكتاب والسنة إنما يتنزل من خالق الإنسان العالم بأحواله وحاجاته الأصلية التي فطر عليها فإن فهم العصر محل تنزيل الحكم هو من فقه الحكم أيضًا.

ولعلنا نقول: إن فهم أسباب النزول والورود يشكل مدخلاً أو منهجًا للفقيه والباحث، لإدراك أهمية فهم العصر، والظروف والملابسات التي تحيط بالحكم الشرعي، وليس فقط فهم أبعاد النص.

إن فهم العصر لا يتأتى إلا بإدراك السنن والقوانين الاجتماعية، والتمكن من آليات الفهم الاجتماعي التي لها علومها ومعارفها، والتي لم يمتد بها المسلمون بالأقدار المطلوبة، بحيث أصبح خطابهم في توصيل الإسلام، وبيان أحكامه إلى الناس يقتصر على مطالبتهم بما يجب أن يكون دون معرفة ما هو كائن، وما يناسبه من الأحكام في هذه المرحلة، ودون معرفة وسائل وأوعية التحرك بالناس، حتى نصل بهم إلى ما يجب أن يكون، وما لم تحل هذه المعادلة في العقل المسلم، فسوف نساهم بشكل سلبي في تحنيط الأحكام، وبعدها عن مواقع التنزيل)(1).


(1)     تقديم كتاب أسباب ورود الحديث تحليل وتأسيس بقل الأستاذ عمر عبيد حسنه.



بحث عن بحث