الحلقة (44) آثار قيم الإسلام الخلقية في صياغة المجتمع المسلم (3- 8).

 

 

خلقه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله تعالى عليهم :

كان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه على أكمل خلق وأحسنه وأجمله؛ يشكر لمحسنهم, ويعفو عمن أساء إليه منهم, ويتألفهم بالبذل لهم والإحسان إليهم.

وقد أجمل ذلك العلامة ابن القيم فقال: "وأما سيرته في أوليائه وحزبه,فأمره – يعني ربه تبارك وتعالى– أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه, وألا تعد عيناه عنهم, وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم, ويشاورهم في الأمر, وأن يصلي عليهم.

وأمره بهجر من عصاه, وتخلف عنه, حتى يتوب ويراجع طاعته كما هجر الثلاثة الذين خلفوا.

وأمره أن يقيم الحدود على من أتى موجباتها منهم, وأن يكونوا عنده في ذلك سواء شريفهم ودنيئهم(1) ".

- ومن أعظم أخلاقه عليه الصلاة والسلام الجود والإحسان فعن ابن عباس رضي الله عنه قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان, إن جبريل كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ, فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة(2)  ".

ومن صور إحسانه عليه الصلاة والسلام ما عامل به وفد هوازن لما أتوا مسلمين, وكان عليه الصلاة والسلام قد قاتلهم وكسر شوكتهم يوم حنين, وجمع منهم من السبي والغنائم شيئا عظيما(3) .

قال ابن إسحاق(4)  :حدثني عمرو بن شعيب(5)  عن أبيه عن جده,عبد الله بن عمرو:أن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا, فقالوا: يا رسول الله, إنا أصل وعشيرة, وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك, فامنن علينا, منّ الله عليك .., فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله, خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا, بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا, فهو أحب إلينا, فقال لهم:" أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم, وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس, فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا, فسأعطيكم عند ذلك وأسال لكم"، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الأقرع بن حابس(6)  :أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن(7)  : أما أنا وبنو فزارة فلا . وقال:عباس بن مرداس(8)  : أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم : بلى, ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض , من أول سبي أصيبه , فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم(9)  ".

وفي هذه القصة من الفوائد أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الإحسان إلى هذا الوفد الذي أقبل راغباً مسلماً, والترغيب في الإحسان إليهم مع عدم الإلزام بذلك, لأن جملة ممن معه هم من المؤلفة قلوبهم, الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم, ومع هذا فقد وعدهم بالعطاء الجزيل مقابل ردهم ما في أيديهم, وفي هذا من الحكمة والسياسة وحسن التعامل مع النفوس وترويضها على البذل , ودفعها إليه برفق , ما يشهد بكمال حكمته وعظيم خلقه عليه الصلاة والسلام .

 


(1) - ابن القيم – زاد المعاد (3 /161). 

(2)  - متفق عليه ,ابن حجر – فتح الباري (4 /565 ).النووي – شرح صحيح مسلم (5 / 165 – 166

(3)  - انظر : ابن هشام . السيرة النبوية (4 /488  

(4) - هو محمد بن إسحاق بن يسار,أبو بكر المطلبي من الموالي.إمام المغازي مات سنة 150 ه وقيل بعدها.تقريب التهذيب ص467 .   

(5)  - عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي,فقيه أهل الطائف ومحدثهم,مات سنة 118 ه . سيرة أعلام النبلاء(5/165 )تقريب التهذيب ص 423 .

(6)  - هو القرع بن حابس بن عقال التميمي المجاشعي,من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه,مات في زمن عثمان,وقيل قتل في اليرموك.الإصابة(1/72)

(7)  - عيينة بن حصن بن حذيفة بن الفزاري,من المؤلفة قلوبهم,عاش إلى خلافة عثمان.الإصابة 3/55 .

(8)  - عباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي , أسلم بعد الأحزاب , وكان من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه منهم .أسد الغابة (3/64) تقريب التهذيب ص294 .

(9) - انظر ابن هشام السيرة النبوية (4 /488 – 490)مختصرا.وابن القيم – زاد المعاد (3 /475 – 476 ).وقد ذكر المحققان أن سندها حسن,وأصلها في البخاري.انظر:ابن حجر – فتح الباري (8 /24).

 



بحث عن بحث