مقدمة

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أما بعد:

فإن القيم الخلقية تعد أحد الركائز الرئيسة في البناء الإنساني, ذلك أنها تتناول جميع مظاهر السلوك الفردي والاجتماعي, فهي تضبط الفرد وتوجه سلوكه إلى ما يعود عليه بالخير, وتحفزه إلى الترقي في مراتب الكمال والسعي الجاد إلى معالي الأمور ومحاسن الأعمال, وهي ضرورة اجتماعية تضمن للناس التعايش في أمن واستقرار, وتكاتف وتعاون.

ومالمعائب التي تلحق بالأفراد والمصائب التي تحيق بالعباد والبلاد إلا أثراً لغياب القيم الخلقية عن توظيف مواهب النفس, وتوجيه سلوك الناس.

والقيم الخلقية في الإسلام ركيزة من ركائز الدعوة, فعن طريق التعامل الخلقي القويم فتح الله لهذا الدين قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وأسماعاً صماً, كما قال تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...) (1).

ولقد أدرك أعداء الإسلام أهمية الأخلاق وأثرها في توجيه حياة المسلمين وتقوية أواصر المحبة والألفة بينهم فعملوا بما أتوا من قوة وبما تهيأ لهم من وسائل على إفسادها وهدمها, وسلكوا لذلك طرقاً أهمها:

1- العمل على قطع صلة القيم الخلقية بالمصادر الأصلية بإظهار الإعجاب بالأفكار الفلسفية وتعظيم من تبناها من المفكرين, وتشويه أو جحود الدراسات الأصيلة القائمة على الكتاب والسنة, وغمط أهلها.

2- السعي في تيسير الشهوات المحرمة التي تضعف صلة المسلم بربه وتفت في إيمانه بالله ويقينه بالدار الآخرة, فلا ينشط لفضيلة ولا يرغب في إحسان.

وقد تحقق لهم بعض ما أرادوا فقد استجد في المجتمعات الإسلامية اليوم نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية تبدل في المفاهيم وضياع للموازين وانقلاب للقيم, حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً, فكان من نتيجة ذلك أن انغمس كثير من الناس في الشهوات المحرمة, وانحرفوا عن جادة الصواب مع عدم الشعور بالذنب أو الرغبة في الإصلاح، يحدوهم الجهل بمصادر التلقي ومضان الاقتداء, فتفرقت بالناس الأهواء, وتشتتت بهم السبل, ويمموا وجوههم شرقاً وغرباً سيراً مع الركب وخوفاً من الانتقاد وجبناً عن المواجهة، لذا صارت الحاجة ملحة لإبراز القيم الخلقية في الإسلام وبيان مصادرها الأصلية وخصائصها المميزة وأمثلتها الحية وآثارها الجلية في النظم الإسلامية.

 

أسباب اختيار الموضوع:

نحت الدراسات في الأخلاق عند المتقدمين مناحي فلسفية, متأثرة بالفلسفة اليونانية, مع محاولة بعضهم التوفيق بينها وبين أحكام الشريعة كما فعل مسكويه (2) .

وكان لعلماء السلوك جهد في هذا المجال ومن أبرزهم الغزالي الذي قيل عن فكره في هذا الجانب: أنه برزخ بين المسلمين والفلاسفة, ففيه فلسفة مشوبة بإسلام, وإسلام مشوب بفلسفة.

أما الدراسات الحديثة فهي أيضاً قليلة العناية بهذا الجانب, ويمكن تحديد وجهتها إجمالاً في الأمور التالية:

1- كثير منها يتخذ من أعمال القدماء موضوعاً لبحثه كالدراسات العديدة لابن مسكويه والغزالي.

2- أن بعضها يعالج الموضوع بقصد الوعظ.

3- كثير من المؤلفين يكتفي بوضع فصل عن القيم والأخلاق ضمن كتب الحضارة والعقائد والثقافة الإسلامية.

على أن ثمة دراسات قيمة ومفيدة في هذا الباب, منها رسالة الدكتور محمد عبد الله دراز, دستور الأخلاق في القرآن, ومنها رسالة الدكتور مقداد يلجن, الاتجاه الأخلاقي في الإسلام على أن استفادتي منهما كانت محدودة لأسباب منها التباين في خطة البحث ومجال الدراسة.

لذا لأهمية هذا الجانب وحاجة جملة من أجزائه إلى البحث والدراسة والتأصيل, أحببت أن أكتب فيه.

وقد جاء هذا البحث في مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة.

- المقدمة: وفيها بيان أهمية الموضوع, وأسباب اختياره والمنهج المتبع في البحث.

- التمهيد: وفيه لفت الأنظار إلى جهود علماء المسلمين رحمهم الله من مفسرين ومحدثين وفقهاء في هذا المجال.

- أما الباب الأول: فهو عن "قيم الإسلام الخلقية" وقد احتوى على فصلين:

الفصل الأول: عن مفهوم قيم الإسلام الخلقية ومصادرها, وقد تضمن أول مباحثه تعريفاً بالقيم وبالأخلاق في اللغة وفي الاصطلاح, ثم تحديد المقصود بالقيم الخلقية, وبيان الأقرب في تعريفها.

وتناولت في المبحث الثاني: مصادر قيم الإسلام الخلقية, فبينت فيه مدى صلاحية الفطرة والضمير مصدراً من مصادر القيم الخلقية, كما نبهت على مكانة القرآن والسنة, وبينت أنهما الميزان الذي توزن به سائر التصرفات والأفعال فما وافقهما فحق وخير, وما خالفهما فباطل وشر.

ثم تناولت في مطلب آخر العرف والمصلحة المرسلة والاستحسان, وبينت مكانة كل واحد من هذه المصادر وموقعه الصحيح في الاستناد إليه كمصدر من مصادر القيم الخلقية في الإسلام, وقد قدمت لكل مصدر من هذه المصادر بتعريف موجز به, وطرف من أقوال العلماء فيه.

الفصل الثاني: عن خصائص قيم الإسلام الخلقية وضوابطها, وتناولت فيه أبرز خصائصها, مع الإشارة إلى شيء من ثمار كل خصيصة من هذه الخصائص وقد حرصت على الاقتصار على ما يتعلق بالخصيصة المعينة, وقد اضطر لذلك حتى لا ينجر الحديث منها إلى ما هو متعلق بغيرها من الخصائص, هذا في المبحث الأول.

ثم في مبحث آخر تناولت ضوابط القيم الخلقية في الإسلام, وهي الحلال والحرام والمباح والمكروه والندب والتفضل, وبينت وجه كونها ضوابط وأشرت إلى أهميتها, وضرورة الأخذ بها ومراعتها.

- وأما الباب الثاني: فهو عن "آثار قيم الإسلام الخلقية" واشتمل على فصلين:

الفصل الأول: عن آثار قيم الإسلام الخلقية في صياغة المجتمع الإسلامي, وتحدثت في مبحثه الأول عن أثرها في السلوك, وبينت فيه نماذجها الفريدة, وأمثلتها الحية وثمارها الخيّرة, وذلك من خلال الممارسات الفعلية والتطبيقات العملية من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم, والصحابة والتابعين.

أما المبحث الثاني فهم عن آثارها في النظم, وبينت فيه أبرز هذه الآثار من خلال الحديث عن: نظام الأسرة, والمعاملات وعلاقة السلم والحرب ونبهت فيه على أهمية القيم الخلقية في كل جانب من هذه الجوانب والآثار الحسنة المترتبة على الأخذ بها, والنتائج السيئة والعواقب الوخيمة الحاصلة من إهمالها أو الإخلال بها.

والفصل الثاني: عن آثار قيم الإسلام الخلقية في صياغة المجتمع الإنساني, وتناولت فيه أهم آثارها على المجتمعات الإنسانية سواء في ذلك من أخذ بها, أو عاش في ظل سيادتها وتفيء ظلالها, أو من قدر له الاحتكاك بأهلها, أو الاستمداد من منابعها.

- ثم الخاتمة وفيها أهم نتائج البحث.

 

هذا وقد حرصت في هذه الدراسة على أمور أهمها:

- الرجوع إلى المصادر الأصلية في كل فن مست الحاجة إلى الرجوع إليه والاقتباس منه.

- اعتماد ما صح سنده من الأحاديث والآثار قدر الاستطاعة, لأن فيه الغنية والكفاية, ثم هو أصدق في التدليل, وأقوى في الحجة, وأبلغ في التأثير.

- التنبيه في الغالب على درجة الحديث إذا لم يكن في الصحيحين أو في أحدهما بالإشارة إلى من صححه من أهل العلم من المشتغلين بهذا الشأن من المتقدمين أو المعاصرين, وقد أكتفي بالتنبيه على وجوده في بعض الكتب المشتملة على الأحاديث الصحيحة كصحيح الجامع الصغير وزيادته, وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني.

كما أني أرجع في الغالب إلى الشرح كفتح الباري وعون المعبود ونحوها لأنها الأكثر تداولاً, لما اشتملت عليه من حكم على الأحاديث وشرح لها وتنبيه على من خرج الحديث من الأئمة الآخرين ولذا أكتفي بالإحالة إلى أحد هذه الشروح لا جميعها قصداً للاختصار ولحصول المقصود بذلك عدا ما رواه الشيخان فإني أشير إلى موضعه في كل واحد منهما.

- الحرص على عدم الإطالة والاختصار والإيجاز في ذكر الأمثلة والشواهد.

- التقديم لكل فصل بتمهيد يحدد المقصود, ويبين المراد, ويزيل ما قد يوجد من غموض أو إشكال.

وبعد فإني أحمد الله تعالى أن وفقني إلى هذا الموضوع, وأعانني على إنجازه, وأسأله تعالى المزيد من فضله.

***

د/عبدالله بن محمد العمرو


 


(1)  سورة آل عمران آية رقم (159).

(2)  انظر: د.أخمد عبد الرحمن إبراهيم- الفضائل الخلقية في الإسلام ص 17, دار العلوم – الرياص ط1 سنة 1402هـ.

    د. زكي مبارك – الأخلاق عند الغزالي ص 58, المكتبة العصرية- بيروت.

 

 

 



بحث عن بحث