آثار قيم الإسلام الخلقية في المعاملات (4-4)

 

 

- الإلزام بالقيم الخلقية في المعاملات والعقوبة على الإخلال بها :

تبرز أهمية القيم الخلقية في المعاملات , وتظهر عناية الشريعة بها من خلال ما قرره العلماء من مشروعية الأخذ على يد المخل بها , وتأديبه بما يزجره عن فعله , ويردعه عن مخالفته , فمن ذلك :

عقوبة الغاش كما ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه(1).

ونقل شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض العلماء فيمن غش أو نقص من الوزن أنه يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق(2).

وقال الماوردي عن وظائف المحتسب: " ومما يتعلق بالمعاملات غش المبيعات وتدليس الأثمان , فينكره ويمنع منه ويؤدب عليه بحسب الحال فيه . . وإذا كان الغش تدليسا على المشتري ويخفى عليه فهو أغلظ الغش تحريما وأعظمها متأثما, فالإنكار عليه أغلظ والتأديب عليه أشد(3)" .

وقال مؤكدا وجوب توفر القيم في أهل الصنائع وموقف المحتسب من المخل بها: " إن من أهل الصنائع من يراعي حاله في الأمانة والخيانة مثل الصاغة والحاكة والصباغين(4) لأنهم ربما هربوا بأموال الناس فيراعي– أي المحتسب – أهل الثقة والأمانة منهم فيقرهم, ويبعد من ظهرت خيانته , ويشهر أمره لئلا يغتر به من لا يعرفه(5) "

ومن ذلك إتلاف الكتب المشتملة على الكذب والبدعة وإعدامها(6), وعقوبة من يروجها وينشرها العقوبة الرادعة , لأن ذلك من أعظم الغش للمسلمين والخيانة لهم لما يترتب عليها من إفساد للدين وهدم للأخلاق .

- ومن ذلك منع الاحتكار , وإجبار المحتكر على البيع , دفعا للظلم عن الناس , قال شيخ الإسلام:" لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه, مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والناس في مخمصة فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل(7) ". وقد حكى النووي الإجماع على ذلك(8), منعاً له من الظلم, ودفعاً للضرر عن الناس .

- ومن ذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن تلقي الركبان, وإثباته الخيار للبائع إذا أتى السوق . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تلقوا الجلب, فمن تلقاه فاشترى منه, فإذا أتى سيّده السوق فهو بالخيار(9) ). أي فللبائع الحق في إمضاء البيع أو رده. وفي إثبات الخيار له دفع للظلم المتوقع عليه , وتبكيت للمشتري ومنع له من الظلم والإضرار بغيره. قال النووي: " قال العلماء: وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته ممن يخدعه – قال– ويضاف إلى ذلك علة ثانية: وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص, وقطع المواد عنهم(10)" .

وهكذا فإن من تهاون بالقيم الخلقية فيما بينه وبين الناس من معاملة كان مستحقا للذم والتأديب بحسب جرمه , وبقدر ما يحدثه هذا الإخلال من ضرر على الناس .

وبهذا يتبين أن القيم الخلقية في باب المعاملات ليست توجيهات فحسب للإنسان الخيار في التزامها أو عدمه بل هي واجبات دينية لازمة , وأوامر إلاهية متعينة لا يسع الإنسان إلا العمل بمقتضاها .


(1) - ابن تيمية – الحسبة ص 50 , قال رحمه الله : وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق أولى , فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره على العود , ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه . وعمر أتلفه لأنه كان يغني الناس بالعطاء فكان الفقراء عنده بالمدينة إما قليلا أو معدومين . ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه منهم الإمام مالك . المصدر نفسه ص 51 – 52 .

(2) - ابن تيمية – المرجع السابق ص 53 .

(3) الماوردي . الأحكام السلطانية ص 253, دار الكتب العلمية – بيروت سنة 1398 ه .

(4) الحاكة جمع حائك وهو الذي ينسج الثياب , والصبّاغين : جمع صبّاغ وهو من يعمل في تلوين الثياب ونحوها . انظر مجمع اللغة العربية , المعجم الوسيط (1/ 208, 506)مرجع سابق .

(5) - الماوردي – المرجع السابق ص 255 – 256 , مختصرا .

(6) - بن القيم – الطرق الحكمية ص 256 , دار الكتب العلمية- بيروت . – زاد المعاد (5 /761 )0

(7) - ابن تيمية – الحسبة ص 15.

(8) - النووي – شرح صحيح مسلم (4 / 162 )0

(9) - رواه مسلم، في البيوع، باب تحريم تلقي الجلب، رقم (1519).

(10) - النووي – شرح صحيح مسلم (4 / 11 – 12 ) وانظر : ابن حجر – فتح الباري (4 / 374)0

 



بحث عن بحث