الدعوة إلى التوحيد ( 1 – 2 )

عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له - صلى الله عليه وسلم -:إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله)، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). متفق عليه(1).

هذا حديث عظيم، مليء بالحكم والأحكام، والفوائد الجليلة العظام، أوجزها فيما يلي من الوقفات:

الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم-، _كما أخرجه البخاري_، وقد روى الواقدي أنه كان في السنة التاسعة عند منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم- من تبوك، وقيل غير ذلك، لكنهم اتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر - رضي الله عنه-، ثم توجه إلى الشام فمات بها(2).

الوقفة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب...).

هذه أولى وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم- لمعاذ - رضي الله عنه- وفيها ثلاث فوائد:

الأولى: أن المسؤول إذا أراد أن يندب أحداً لعمل مهم فعليه أن يوصيه بما يعينه على أداء مهمته، وبخاصة إذا كانت شبيهة بمهمة معاذ _رضي الله عنه_ ، كمن سيقوم بالدعوة إلى الإسلام، أو يعلم الناس، أو يكون قاضياً عليهم، أو ينظر في مشاكلهم، ونحو ذلك.

الثانية: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- نبّه معاذا إلى أن القوم الذين سيقدم عليهم أهل كتاب؛ وهم اليهود والنصارى، وإنما أخبره بذلك؛ لكونهم يحتاجون إلى شيء من العلم وقوة الحجة، ليستعد لذلك بما أعطاه الله تعالى من العلم، فلا يظن أنهم جهلة، وبالتالي يعرض الدعوة عليهم عرضاً غير مناسب فلا يحصل المقصود.

الثالثة: من هذه الجملة القصيرة يستفيد الدعاة إلى الله فائدة عظيمة، ولنقف عندها قليلاً بشيء من البسط، ذلك أن الدعوة إلى الله تحتاج في عرضها للناس أسلوباً يليق بمكانها، وشرفها، وعظم شأنها، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- ينبه معاذا إلى أن لكل مقام مقالا، فمخاطبة الجاهل تختلف عن مخاطبة المتعلم، ومخاطبة أنصاف المتعلمين تختلف عن مخاطبة المتعلمين، وهذا من الحكمة التي أمر الدعاة بانتهاجها، في قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(3).

ومن الملاحظ أن كثيراً ممن ينتهجون أسلوب الوعظ، والإرشاد، والتوجيه، لا يراعون مثل هذا مما لا يجعل لكلامهم فائدة كبيرة، ولو لاحظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لوجدناه الحكيم كل الحكمة  في عرض الدعوة، ابتداء بعرضها على قريش في أول الدعوة، وحتى توفاه الله _عز وجل_، فتارة يعرضها بأسلوب الخطبة للناس عموماً، وتارة يعرضها على شخص معين، وتارة بتصحيح خطأ، ...وهكذا.

إن عدم انتهاج أسلوب الحكمة، ووضع الكلمة في غير موضعها، قد يؤديان إلى أضرار كثيرة، ومن أهمها نفور الناس من الإسلام وأهله. إن الكلمة أمانة ومسؤولية، والمتكلم أمين، فعليه أن يؤدي أمانته على الوجه المطلوب؛ لأجل أن تؤدي مفعولها، وتثمر ثمارها الطيبة _ إن شاء الله_.

الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية:(إلى أن يوحدوا الله)، وفي هذه الجملة ما يلي من المسائل:

الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أول ما تدعوهم ...).

هذا أسلوب جديد من أساليب الدعوة، ذلك هو التدرج من الأهم فالمهم، فمعاذ – رضي الله عنه – سيقدم  على أناس كافرين بالله - سبحانه وتعالى-، فلأجل أن يدخلوا في دين الله لا بد من التدرج معهم شيئاً فشيئاً، فالتكاليف إذا أعطيت دفعة واحدة لا يمكن أن تجد قبولاً من المتلقي؛ لأن التكليف بطبعه ثقيل على النفس، وهذا ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم- في دعوته المباركة مع قومه، حيث مكث في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعوهم فيها إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وما هم عليه من عبادة الأصنام والأوثان، ولم يكن يأمرهم بغير ذلك، وهكذا أيضاً دعوة الأنبياء والمرسلين، يبدأون بالأهم فالمهم.

وعلى هذا ينبغي لكل داعية أن ينظر إلى الأهم فيركز عليه في دعوته وعرضه، مع أنه ينبغي أيضاً أن لا يغفل عن الأسلوب السابق، وهو أن لكل مقام مقالا، حيث إن مخاطبة الكافر تختلف عن مخاطبة المسلم العاصي، ومخاطبة الابن المقصر في تطبيق أحكام الإسلام تختلف عن مخاطبة البنت.... وهكذا.

الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، جاءت هنا روايات، فمنها: فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات.

ومنها: إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك.

وقد يسأل سائل ويقول: هل بين هذه الروايات اختلاف بغير المعنى؟

يجيب عن هذا الحافظ ابن حجر – رحمه الله – بقوله: إن المراد بعبادة الله: توحيده، وتوحيد الشهادة له بذلك، ولنبيه بالرسالة، فظهر من هذا أن لا تعارض بين هذه الروايات، فمعناها واحد، وهو الدعوة إلى توحيد الله - سبحانه وتعالى- وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ونبذ ما سوى ذلك.

الثالثة:  من هذه الجملة يتبين أن أهم ما يدعو إليه الداعي هو توحيد الله _عز وجل_، والتركيز على ذلك تركيزاً كبيراً، يدل على ذلك فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم- واستمراره أكثر أيام الدعوة في ترسيخ العقيدة في النفوس، وتوحيد الله _عز وجل_ ونبذ الشرك وأهله.

فعلى الدعاة إلى الله - عز وجل- في كل قطر أن يهتموا بهذا الجانب اهتماماً كبيراً، فيضعوه في أوّل الأولويات، مهما خالفهم الناس وعارضوهم، فلهم في الأنبياء والمرسلين قدوة، وفي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة، ومتى ما استجاب الناس لعقيدة التوحيد سهلت الاستجابة لسائر الأحكام، ألم تر أخي الداعية أن أكثر القرآن الكريم دعوة للتوحيد، سواء كان مباشرة كقوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)(4)، أو كان بغير مباشرة عن طريق عرض دعوة الأنبياء - عليهم السلام-، وبيان قصصهم مع أقوامهم، ونحو ذلك، أو في عرض مخلوقات الله – سبحانه-؛ ليستدل بها العاقل على خالق هذا الكون، فهو المعبود وحده لا سواه، لماذا هذا كله؟ لا شك أنه لأهمية العقيدة، وترسيخها في نفوس الناس.

ومن هنا نعلم خطأ كثير من الدعاة الذين أهملوا جانب العقيدة، وركزوا على جوانب السلوك والأخلاق، أو دخلوا بعمق في النواحي الاجتماعية، والسياسية، ونحوها، أكثر من جانب العقيدة.

ولا شك أن لأحكام الإسلام بعامة أهمية عظمى، وليس في الإسلام لبٌّ وقشور، كما يحلو للبعض أن يتلفظ بذلك، ولكن البدء بالأهم فالمهم، (ولا إله إلا الله) أهم شيء يجب الدعوة إليه.

الرابعة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عند هذا اللفظ: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم-، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدوّ وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قال بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان)(5).

الخامسة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أوّل ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...).

قال أهل العلم: فيه دليل على أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهراً عند سلف الأمة، وأئمتها، وجماهير علمائها.

السادسة: قال بعض أهل العلم: هذا الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم- معاذا هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي - صلى الله عليه وسلم- أمراءه، وعليه فتستحب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة، أما من لم تبلغه الدعوة فتجب دعوته قبل القتال.



[1] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي r أمته إلى توحيد الله، 15/2301، ح 7372، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ح 19، 1/50.

[2] نقلا من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 71، 72، الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ.

[3] سورة النحل، الآية: 125.

[4] سورة النحل، الآية: 36.

[5] نقلاً من كتاب: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد ص 73، لعبد الرحمن آل الشيخ.

 

 

 

 



بحث عن بحث