الضابط الرابع: جهة المفسدة أولى بالدرء عند تساوي المصالح مع المفاسد

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد...

ففي هذه الحلقة نبين: أن جهة المفسدة أولى بالدرء عند تساوي المصالح مع المفاسد:

إذا تساوت المصالح مع المفاسد، فإن تمكنا من تحصيل المصلحة ودرء المفسدة في آن واحد فحسن، وإن لم نتمكن من الجمع بين التحصيل والدرء، قدمنا دفع المفسدة على جلب المصلحة ولو نجم عن ذلك الحرمان من منافع عملا بقاعدة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»(1)

ومن الأمثلة التي ذكرها العلماء لهذه القاعدة:

أ‌-  دفع الموت عن النفس بموت الغير، كأن يهدد شخص بالقتل إن لم يقتل غيره، فهنا تساوت مصلحة الحفاظ على النفس مع مفسدة إزهاق نفس الغير، لكن بما أن القتل مجمع على تحريمه، والصبر مطلوب في حق من أكره على ذلك، فإن درء قتل الغير مقدم على درء قتل النفس(2)

ب‌-إذا كان تصرف الجار في ملكه يؤدي إلى إيذاء جيرانه كاتخاذ فرن يؤذيهم بدخانه أو معصرة يؤذيهم برائحتها أو مطحنة تؤذي بضجيجها، منع من ذلك، لأن في هذه الأعمال مصالح حاجية لنفسه، ولكنها تؤدي إلى مفاسد مخلة بحاجات جاره، والمفاسد إذا تزاحمت مع المصالح وكانت في درجة واحدة درئت المفاسد.

ومن الأمثلة على تطبيق هذه القاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، في الدعوة ووسائلها:

1-  عند وجود ابن أو تلميذ أو أي مدعو متساهل في بعض الأحكام الشرعية وعند أمره أو نهيه سيتعدى أذاه إلى الآخرين، فهنا تترك مصلحة دعوته وأمره لأنها ستؤدي إلى مفسدة أكبر وهي التعدي على الآخرين، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

2-  عند استخدام وسائل متأرجحة بين الحل والحرمة من المستجدات للدعوة، مثل بعض الأناشيد التي لا تختلف على الأغاني المحرمة إلا بأشياء يسيرة، لكن عند استخدامها ستؤدي إلى مفاسد منها: فتنة المشاهدات، أو المستمعات، والتساهل في الوصول إلى الأغاني المحرمة، فلا شك أن المصلحة المدعاة هنا باستخدامها تترك بسبب المفاسد المترتبة عليها فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

وبناء على ما سبق فعلى الدعاة إلى الله تعالى التحلي بهذا الفقه العظيم فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد لأن ذلك يجعل الداعية يحصل في دعوته مصالح عظيمة، ويدفع مفاسد كثيرة.

وإلا فمن لم يوازن ما بين الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية، فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع(3)

النتائج المترتبة على الإخلال بهذه القاعدة:

إن غياب فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد عند بعض الدعاة وطلبة العلم، جعلهم يفعلون أمورًا يجلبون بها مفاسد، ويفوتون مصالح، وهو يظنون أنهم يحسنون صنعا.

فكم من مصلحة فاتت، أو مفسدة أحدثت باسم الدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو باسم الإنكار على أهل البدع.

انظر يا رعاك الله إلى الذين كانوا يقتلون ويؤذون المسلمين والمسلمات والمعاهدين باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهاد –كما زعموا- فكم سببوا من مفاسد؟ وكم فوتوا من مصالح؟ وحسبك من مفسدة كبرى الصد عن الإسلام والمسلمين، وحسبك من تفويت مصلحة كبرى، وهي عدم تقدم الدعوة إلى الله(4)

 وبناء على ذلك يمكن ذكر بعض النتائج السلبية المترتبة على الإخلال بهذه القاعدة:

1- تفويت مصالح عظمى، ومن أعظمها عدم وصول الإسلام الحق إلى الناس.

2- حصول مفاسد كبرى من القتل والاعتداء على الأعراض والأموال، وهذا ظاهر بوضوح لمن تأمل في أساليب من ينتهج التغيير بالقوة.

3- تمييع الدين والتساهل فيه وتتبع الرخص، وهذا ظاهر فيمن غلب المصالح الجزئية على ما هو أكبر، ولم يتحمل مخالفة الناس عند رؤيته لغلبة الفسق وأصحابه.

4- عدم الوصول إلى النتائج الإيجابية المثمرة المرجوة لاختلاط المفاهيم وتضارب الأعمال، وتناقض المناهج، وذلك لغلبة النظرة الأولية في تقدير المصالح والمفاسد.

5- اختلال المفاهيم الشرعية لأن النظرة لم تكن مبنية على الفهم السليم للنصوص الشرعية والقواعد العلمية.

6- وضع الأدلة الشرعية في غير موضعها الصحيح ولي أعناقها، وإغفال بعضها وبخاصة ما لم يوافق ما يريده المستدل، وهذا ظاهر لمن تأمل في بعض المناهج الدعوية عند اتخاذ موقف أو نازلة من النوازل والدارس للمواقف حول الأحداث الأخيرة في البلاد الإسلامية يدرك هذا بوضوح.

7- تأخر الدعوة – بمفاهيمها الشمولية وأفرادها- ورجوعها إلى الوراء نتيجة قيامها على عدم التوازن في المصلحة والمفسدة.

8 –خروج قيادات دعوية، ومفتين غير مؤهلين وذلك لعدم فقههم التطبيقي لهذه القاعدة فيضلون ويضلون.

وأخيرًا: أقول: إن من أعظم ما تحتاجه الدعوة في هذا الوقت ومن أعظم ما يحتاجه الدعاة دراسة هذه القاعدة بتأمل وتدبر، وبفهم وتطبيق، وأن يعمل لذلك البرامج والدورات النظرية والتطبيقية، وإذا كان علماؤنا وأسلافنا بذلوا جهودًا جباره في إبراز هذه القاعدة وتطبيقها في الأحكام، فعلى علماء هذا العصر ودعاته أن يستفيدوا من ذلك الجهد بالتطبيق في الواقع الدعوي كي تسير السفينة إلى ساحل النجاة.

لا أزعم أن هذه الصفحات كافية وإنما هي بيان للأهمية.

وقد ذُهلت عندما قرأت بعض الرسائل والمقالات التي أدت ببعض المنتهجين  للتغيير بالقوة إلى إلغاء هذه القاعدة، بل والتقليل من شأنها، فتساءلت ماذا يريد هؤلاء وأمثالهم؟؟!.

والذهول نفسه أو قريب منه من يغلب المصالح الجزئية أو الفردية أو لا يريد عمله ودعوته وفق المصالح والمفاسد الشرعية فانتهجوا منهج التساهل غير المنضبط فأدّى بهم إلى تغيير كثير من الأحكام بل وإلى السخرية من بعضها كمن يرى أن بعض الأحكام الشرعية كالاهتمام بأمر اللباس أو اللحية أو حجاب المرأة أو التساهل في التشبه بالكفار قشور لا يجب النظر إليها.

ويبقى كلمة أخيرة وهي إجابة على سؤال مهم، وهو سؤال تطبيقي وهذا السؤال يقول: مَنْ الذي يقدر المصالح والمفاسد، أو غلبة أحدهما على الآخر؟ والجواب بلا شك هم أهل الفقه والنظر والعلم والدراية والخبرة بعد الاستعانة بأهل الاختصاص إذا كانت القضية أو المسألة تحتاج إلى مختصين.

وبناء على هذا فليس لكل من سلك طريق الدعوة مؤهل لهذا النظر، ولاسيما في الحوادث الكبرى، والنوازل العظمى التي تعم الأمة بأكملها. كما حدث في الحوادث الكبرى في هذا الزمن وأحدثت تأثيرًا عظيمًا تباينت فيه الآراء واستعجل مستعجلون حسبوا أنهم على فقه ودراية، ولمزوا غيرهم، وتعالت أصواتهم وأثرت على الناس، وما أن يذهب وقت وإلا ويستبين لهم قبل غيرهم أن نظر أهل العلم كان هو الحق والصواب، وما أوتوا هم إلا من قبل استعجالهم وقلة نظرهم وضعف تقديرهم للمصالح والمفاسد.

وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: القاعدة السادسة: البناء والمعالجة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


(1) ينظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/105) وللسيوطي: ص:(97)، ولابن نجيم: ص: (90).

(2) قواعد الأحكام: (1/79-83).

(3) مجموع الفتاوى: (10/512)، (30/193).

(4) انظر: منهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر: ص: (37).

 



بحث عن بحث