ضوابط الموازنة بين المصالح والمفاسد

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد....

ففي هذه الحلقة نبين: ضوابط الموازنة بين المصالح والمفاسد:

إن الدعاة إلى الله وهو يعيشون واقع الدعوة ويحملون همومها قد يرون في واقع الحياة العملي تصادمًا بين حكمين شرعيين على نحو يعجز معه المكلف عن الجمع بينهما، فيضطر إلى اختيار أحدهما وإعطائه الأولوية التنفيذية.

وهذا التقديم كتقديم حكم على آخر في عالم الامتثال لا يكون عشوائيًا، بل يجب أن يكون وفق ضوابط، وهي بمثابة قوانين يستنير بها المكلف في ترجيح حكم على آخر ليخرج من الزحمة التي وقع فيها.

وإذا استحضرنا كثرة التزاحمات التي يقع فيها المسلم في عصرنا أدركنا أهمية الضوابط في حياتنا العملية، ويمكن تصنيفها إلى ما يلي:

الضابط الأول: الأكثر مصلحة أولى بالتقديم من الأقل مصلحة.

إذا تزاحمت مصلحتان لزم المكلف الحفاظ على المصلحة الراجحة والتضحية بالمصلحة المرجوحة، فيما إذا عجز عن الجمع بينهما وصيانتهما معًا.

وليس معنى هذا أن المصلحة المرجوحة التي أهدرت، لم تعد مصلحة، ولكن معناه أن المكلف لم يتمكن من الجمع بينهما وبين المصلحة الراجحة، فضحى بها مضطرًا لأن الشرع والعقل يحكم بلزوم الحفاظ على المصلحة العليا، ولو أدى إلى تفويت الأدنى.

والمصلحة المفوتة في هذه الحال لم تعد مطلوبة، لذا فإن تركها لأجل تحصيل المصلحة الراجحة، لا يعتبر تركًا لمطلوب شرعي(1).

ومن النصوص الدالة على هذا الضابط:

قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [التوبة : 19].

وروى مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام، إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فقال لهم عمر:  لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ  )[التوبة: 19](2)

ففي هذه الآية يبين الله تعالى أن أعمال الحج من العمارة والسقاية والرفادة والسدانة، لا تساوي الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله فالإيمان بالله والجهاد في سبيل إعلاء كلمته، أعظم درجة عند الله من أعمال الحج، وما عظم ثواب الإيمان والجهاد على ثواب الحج، إلا بسبب كثرة منافعهما، وهنا بيان لأن كل ما ذكر من الأعمال الصالحة إلا أن عند الموازنة بقدم الأكثر منفعة. وقد يكون هذا وقت وهذا في وقت. وهكذا.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل العمل المتعدي نفعه: «خير الناس أنفعهم للناس»(3)

وهذا التقديم الشرعي للعمل بناء على كثرة المنفعة فيه، يتمشى مع طبيعة الإنسان التي تميل إلى الأكثر منفعة.

قال العز بن عبد السلام: «واعلم أن تقديم الأصلح فالصالح... مركوز في طبائع العباد... فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لأختار الألذ، ولو خير بين الحسن والأحسن لأختار الأحسن، لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المسرتين من تفاوت»(4)

لذلك تتابعت أقوال العلماء على هذا الضابط:

قال ابن القيم: «وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما»(5)، وقال العز بن عبد السلام: «إذا تعارضت المصلحتان وتعذر جمعهما فإن علم رجحان إحداهما قدمت»(6)

وقال بدران أبو العينين بدران: «التعارض بين المصالح يوجب الموازنة بينهما فإن ثبت أن إحداهما أهم من الأخرى لزم إهدار المهم محافظة على الأهم»(7)

ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم لهذا الضابط:

1- أن السهر بعد العشاء ذريعة إلى تفويت قيام الليل، فإن عارضه مصلحة راجحة كالسهر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره(8)

2 – وفيها: تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقـه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض فهذا لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى(9)

ومن الأمثلة في تطبيق هذه القاعد في الدعوة إلى الله تعالى:

1- لو تزاحمت وسيلتان أحدهما أكثر نفعًا من الأخرى ككلمة وعطية لعدد قليل من الناس، أو درس علمي مستمر لا شك أنه يقدم الدرس، مع عدم إهمال الأخرى، أو توجب إهمالها.

2- عند تزاحم عملين لدى داعية من الدعاة كأن يواصل عمله في الإغاثة، أو يتركه لخطبة وهو لا يجيدها، في تطبيق هذه القاعدة أن يواصل عمله الذي يجيده ولا يتركه لعمل آخر يقوم به غيره.

3- عند تعارض تربيته لأولاده مع وعظه العام وبخاصة إذا كان يتطلب سفرًا بعيدًا عن أهله فتطبيق هذه القاعدة أنه يترك السفر ويجتهد في تربية أولاده.

وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان:  الضابط الثاني: الأكثر مفسدة أولى بالدرء من الأقل مفسدة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(1)  فقه الأولويات: ص: (197، 198).

(2)  أخرجه مسلم: (3/1499رقم1879)، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى.

(3) أخرجه مسلم: (3/1520رقم1913)، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله.

(4) قواعد الأحكام: (1/7).

(5) إعلام الموقعين: (3/279).

(6) قواعد الأحكام: (1/60).

(7) أصول الفقه: ص: (30).

(8) إعلام الموقعين: (3/191).

(9) إعلام الموقعين: (3/9).

 



بحث عن بحث