دروس من بيت النبوة(2-3)

 

 قال الله تعالى ممتناً على عباده بإكرامهم بأزواج هن وهم من أنفسهم (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) سورة الروم:21 .

 فهي وإن اختلفت عنك في النسب أو البلد هي منك من نفسك؛ ترعى منها ما ترعى لنفسك ، وتحامي عنها ما تحامي عن نفسك، وتطيب لها ما تطيب لنفسك، وأنت لها كذلك تحب لك ما تحب لنفسها التي هي جزء منك، وتأمل معي هذا الحديث لتلمس هذا المعنى بنفسك، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ فَقَالَ « وَهَذِهِ ». لِعَائِشَةَ فَقَالَ لاَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ » فَعَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَهَذِهِ ». قَالَ لاَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ ». ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَهَذِهِ ». قَالَ نَعَمْ. فِى الثَّالِثَةِ. فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ  (1)

فتأمل لما شعر صلى الله عليه وسلم  حاجته إلى مرق الفارسي وحبه له استشعر حاجة عائشة وحبها له، فأبى أن يطعم مرقه حتى تطعمه، ولم يقبل دعوته حتى أشركها معه، ولعل ما يوضح مدى شوقهما لهذا المرق قوله في نهاية الحديث (فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ ) وفي الحديث الآخر عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِىِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ قَالَ « أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ - أَوِ اكْتَسَبْتَ - وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ وَلاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِى الْبَيْتِ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ « وَلاَ تُقَبِّحْ ». أَنْ تَقُولَ قَبَّحَكِ اللَّهُ  (2) .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:[ فالمستحب للداعي أن يدعو خواص المدعو معه فلذلك أمتنع من الإجابة إلا أن يدعوها أو علم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه أو أحب أن تأكل معه منه لأنه كان موصوفاً بالجودة.

وأما توقف الفارسي في الإذن لعائشة ثلاثاً وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم  من إجابته، فأجاب عياض بأنه لعله إنما صنع قدر ما يكفي النبي صلى الله عليه وسلم  وحده وعلم حاجته لذلك فلو تبعه غيره لم يسدّ حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم   اعتمد على ما ألف من إمداد الله تعالى له بالبركة، وما اعتاده من الإيثار على نفسه، ومن مكارم الأخلاق مع أهله، وكان من شأنه أن لا يراجع بعد ثلاث فلذلك رجع الفارسي عن المنع ]  (3)

وقال الإمام النووي رحمه الله:[في قصة الفارسي كان النبي صلى الله عليه وسلم  مخيراً بين إجابته وتركها فاختار أحد الجائزين وهو تركها إلا أن يأذن لعائشة معه لما كان بها من الجوع أو نحوه فكره صلى الله عليه وسلم   الاختصاص بالطعام دونها وهذا من جميل المعاشرة وحقوق المصاحبة وآداب المجالسة المؤكدة فلما أذن لها اختار النبي صلى الله عليه وسلم  الجائز الآخر لتجدد المصلحة وهو حصول ما كان يريده من إكرام جليسه وإيفاء حق معاشرته ومواساته فيما يحصل] (4)  .

وقِس –وقيسي- على الطعام غيره من مهمات الحياة، يطيب العيش ويحصل الهناء.


 (1)  أخرجه مسلم باب ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه 5433-6/116 . أخرجه مسلم باب ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه 5433-6/116.

 (2) أخرجه أبو داود باب في حق المرأة على زوجها ح2144-2/210 قال الألباني حسن صحيح.والنسائي  ح9171-5/373 ، وأحمد ح20027-4/447 قال الأرنؤوط:    إسناده حسن.

 (3)  فتح الباري 9/560،561  باختصار وتصرف يسير.

 (4)  شرح صحيح مسلم 13/209 باختصار وتصرف يسير.

 



بحث عن بحث