مخّة بنت الحارث المروزي

"معلمة الزهاد"

 

إن طريق الزهد وعر شائك، لا يقتحم أهواله إلا من تحصّن بقلب قوي وإيمان عظيم، فالدنيا محفوفة بالشهوات واللذائذ تبذلها لكل راغب، وتغري بها كل طالب، فهي دار ابتلاء وامتحان، مَن قلاها قَلَته، ومَن أقبل عليها أقبلت عليه.

ولقد منّ الله على هذه الأمة بعباد عرفوا الدنيا حق المعرفة، وخبروها عين الاختبار، فأشاحوا عنها معرضين، ونأوا عنها مبتعدين، أولئك هم الزهاد الوَرِعون الذين رقّت نفوسهم مع رقائق الزهد، وصفت قلوبهم بصفاء الإيمان، فكانت العبادة لهم منهجاً والورع سلوكاً.

وقد كان من أشهرهم بشر بن الحارث المروزي البغدادي المشهور ببشر الحافي الإمام العالم المحدث، والذي تخرج في زهده وورعه من مدرسة أخته "مخّة" إذ كان لا يفتأ يحدّث الناس قائلاً "لقد تعلمت الورع من أختي"

ولأنها الأخت النصوح المحبة فقد ربّت أخاها على التقوى والتعلّق بالله، وملأت قلبه بخشيته، حتى غدت أنيسته دون أهل الأرض جميعاً، لذا فقد حزن عليها حزناً شديداً حين وافاها الأجل وعدّ ذلك ابتلاء من الله يختبر به إيمانه وصبره.

ولم تكتفِ "مخّة" بتعليم أخيها الدين والورع، بل علّمته صنعة يتعيّش بها، فقد كانت تعمل في

غزل القطن وتنفق على نفسها من عمل يدها، فأخذ عنها بشر هذه الصنعة، وعمل بالغزل وعاش منه.

ولم يشهد لمخّة بالورع والفضل أخوها بشر فقط، بل شهد لها إمام كبير وعالم جليل هو الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- إذ حدّث عن فضلها وورعها ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل قائلاً: " كنت مع أبي يوماً من الأيام في المنزل فدقّ داقٌّ الباب، فقال لي: اخرج فانظر من بالباب، فخرجت فإذا امرأة، قال: قالت لي: استأذن لي على أبي عبد الله –يعني أباه- قال: فاستأذنته، فقال: أدخلها، قال: فدخلت فجلست فسلمت عليه وقالت له: يا أبا عبد الله! أنا امرأة أغزل بالليل في السراج، فربما طفئ السراج، فأغزل في القمر، فعلّي أن أبيّن غزل القمر من غزل السراج ؟

فقال: فقال لها: إن كان عندك بينها فرق فعليك أن تبيني ذلك ..."

وهذا الاجتهاد في تحري الورع لدرجة أنها لتبين الفرق بين الغزل المصنوع على ضوء السراج من غيره والذي اشتغلت به في ضوء القمر ليدل على شدة فضلها وعظيم تقواها.

ليس هذا فحسب بل لقد بلغ من ورعها وتقواها أنها كانت تحرص ألّا يشوب كسبها أي شائبة تقدح في حلاله، إذ توجّهت إلى الإمام أحمد بن حنبل قائلة له: "... إني امرأة رأس مالي دانقين(1)، أشتري القطن، فأردنه(2)، فأبيعه بنصف درهم، فأتقوّت بدانق من الجمعة إلى الجمعة، فمرّ ابن طاهر الطّائف ومعه مشعل، فوقف يكلّم أصحاب المصالح، فاستغنمت ضوء المشعل، فغزلت طاقات، ثم غاب عني المشعل، فعلمت أن الله مُطالبي، فخلّصني خلّصك الله، فقال لها: تُخرجين الدانقين، ثم تبقي بلا رأس مال حتى يعوضك الله خيراً منهما..."، قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: " يا أبه لو قلت لها لو أخرجت الغزل الذي أدركت فيه الطاقة(3)، فقال: يا بني سؤالها لا يحتمل التأويل!".

ولقد بلغ من شدة خوفها من الله وتقواها أنها كانت تخاف أن يكون الأنين والتألم أثناء المرض شكوى من الله، فلما اشتدّ عليها المرض خرجت إلى الإمام ابن حنبل تستفيه، فقالت له: " يا أبا عبد الله أنين المرض شكوى؟! قال: أرجو ألا يكون شكوى، ولكنه اشتكاء إلى الله" .

وحين غادرته وخرجت من عنده، التفت ابن حنبل إلى ابنه عبد الله قائلاً: " والله يا بني! ما سمعت إنساناً قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة العالمة الفقيهة! اذهب فاتبعها. قال: فاتّبعتها فإذا قد دخلت إلي بيت بشر بن الحارث، وإذا هي أخته. قال: خرجت. فقلت له، فقال: محال أن تكون مثل هذه إلا أخت بشر !"

رحم الله مخّة بنت الحارث، وجعلها وأمثالها قدوة لنساء المسلمين في تحري الورع والخشية من الله(4)


(1)  الدانق: هو سدس الدرهم أو الدينار.

(2)  أردنه: أي أغزله، وارّدن الغزل. اللسان: مادة ردن.

(3)  يقصد لو خففت عنها فطلبت منها التصدق بأصل الغزل الذي أخرجت منه بقية الطاقات.

(4)  الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 14/436،438،دار الكتاب، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 10/469، مؤسسة الرسالة، وابن خلكان: وفيات الأعيان ، 2/276، دار صادر، وعمر رضا كحالة، أعلام النساء، 5/ 31،32، مؤسسة الرسالة.

 

 



بحث عن بحث