الركن الثالث: الشجاعة

قال ابن القيم رحمه الله: [الشجاعة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم ؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب)(1) وهو حقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه](2).

ومن الأخلاق التي تندرج في خلق الشجاعة ما يلي:

1- الشجاعة تحمله على كظم الغيظ والحلم كما سبق في الحديث: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب).

2- الشجاعة تُكسب الإنسان الثبات على الحق وعدم التزعزع عنه ؛ فلا يُغيّر مبادئه وقيمه التي يؤمن بها ويدعو إليها تبعاً لتغيّر الناس الذين يحيطون به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا !! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)(3)، ولا يخاف لومة لائم، ولا يثني عزيمته سخرية ساخر، ولا يفتُّ في عضده تخاذل من يتخاذل عنه، ولا يرعبه تهديد ووعيد ؛ لأنه  يؤمن أن الغلبة له ولأمثاله ممن جعل رضا الله مبتغاه، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن أسخط الله في رضا الناس، سخط الله عليه، وأسخط عليه من أرضاه في سخطه، ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه من أسخطه في رضاه)(4)، وتأمل هذه الشجاعة التي يغذيها الإيمان والثبات على الحق في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب بعد أن أخبره عمه بمطالبة قريش له بالكف عن نصرته -صلى الله عليه وسلم-: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه)(5)، فلا المغريات والشهوات ولا التخويف والتهديد يُضعف قوته أو يزعزع ثباته، وهذا الشأن لا يكون إلا للمؤمن القوي الشجاع.

3- الشجاعة تكسب الإنسان قوة في مجابهة أهوائه، وكبح جماح شهواته، فيسيّر نفسه وفق ما يريده لها من النجاة والفلاح، لا وفق هواها ؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(6). 

ومما يعين على الاتصاف بالشجاعة ما يلي:

1-      الإيمان بأن الآجال محدودة وأن الموت لا بد منه، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً...)(7)، وقال سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(8).

2-      الإيمان بأنه لن يصيب العبد إلا ما كتبه الله عليه كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)(9).

3-      فضل الشجاعة والقوة قال -صلى الله عليه وسلم- (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)(10).

4-      البصيرة في الدين قال سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)(11)؛ والعالم العامل خير وأفضل من العابد من غير علم راسخ قال سبحانه: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(12)؛ وذلك لأن العلم يقوي صاحبه ويثبته على العمل والدعوة.

5-      الدعاء فالدعاء من أقوى الأمور المعينة على التخلق بخلق الشجاعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو كثيراً يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك(13).

 

 


 


(1)     أخرجه البخاري ك الأدب باب الحذر من الغضب ح6114-10/518 مع فتح الباري.
(2)     مدارج السالكين 3 / 74.
(3)     أخرجه الترمذي ح 2007-4/364 باب ما جاء في الإحسان والعفو قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(4)     أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ح 11696-11/268، وابن حبان ذكر رضاء الله جل وعلا عمن التمس رضاه..ح 276-1/510 .
(5)     انظر السيرة النبوية 2/101، الروض الأنف 2/7.
(6)     أخرجه الترمذي باب لم يسمه ح 2459-4/638 وقال حديث حسن، وابن ماجه باب ذكر الموت..ح 4260-2/1423 وقال الألباني: ضعيف، وأحمد ح 17164-4/124 قال الأرناؤوط: إسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي مريم وباقي رجال الإسناد ثقات، والحاكم ك الإيمان ح 191-1/ 125 وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.
(7)     سورة آل عمران آية 145.
(8)     سورة آل عمران آية 185.
(9)     أخرجه الترمذي باب لم يسمه ح 2516-4/667 وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد ح 2669-1/293 قال الأرناؤوط: إسناده قوي، والحاكم ذكر عبد الله بن عباس ح 6303-3/623، والطبراني في الكبير ح 11243-11/123.
(10)     أخرجه مسلم سبق تخريجه.
(11)     سورة يوسف آية 108.
(12)     سورة المجادلة آية 11.
(13)     أخرجه الترمذي باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن ح 2140-4/448، والنسائي في الكبرى باب قوله ولتصنع على عيني ح 7737-4/414، وأحمد ح 12128-3/112 قال الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم.

 



بحث عن بحث