حديث (أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا ؟)

 

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا ؟

قَالَ : « أَطْوَلُكُنَّ يَدًا » .

فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ . (1)

غريب الحديث:

قَصَبَةً: القاف والصاد والباء أصلان صحيحان، يدلُّ أحدهما على قطع الشيء، ويدلُّ الآخر على امتدادٍ في أشياء مجوّفة وهو المراد في الحديث  (2)

والقصَبُ: كل نبات ذي أنابيب مجوفة، واحدتها قصبة  (3)

أطولَكن يدًا : طول اليد لفظ يعبرِّ به عن الكرم والجود والسماحة والعطاء والصدقة، وضده: قصيرُ اليد والباع وهو مشتق من الطَّوْل (بفتح الطاء المهملة المشددة) وهو الفضل والغنى  (4)

من فوائد الحديث:

1/ لا خلاف بين أهل الأثر والسِّير أن زينب بنت جحش – رضي الله عنها - هي أول من مات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (5) عبد الرحمن بن أبزى قال: صليتُ مع عُمَرَ بن الخطاب على زينب وكانتْ أولُّ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم موتًا بَعَد النبي صلى الله عليه وسلم (6)، ولابد أنها هي المقصودة في الحديث، كما روى مسلم في المتابعة السابقة، وروى الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: (أسْرَعكُنّ لحوقًا بي أطولكُنَّ يدًا ) قالت عائشة: فكنَّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانَا بعدَ وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم نمدُّ أيدينَا في الجدارِ نتطاولُ فلمْ نزلْ نفعلُ ذلكَ حتى توفيتْ زينبُ بنتُ جحش زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم وكانتْ امرأةً قصيرةً ولم تكنْ أطولَنَا فَعرفْنَا حينئذٍ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقةَ، قال: وكانْت زينبُ امرأةً صَنَاعةُ اليَدِ فَكَانَتْ تَدْبَغُ وتَخْرزُ وتَصَدَّقُ في سبيلِ الله عزّ وجل.

قال الحاكمُ – رحمه الله -: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (7) .

قال الكرماني – رحمه الله -: وحديث البخاري يحتمل أن يقال إن فيه اختصارًا فلم تذكر زينب - رضي الله عنها - اكتفاء بشهرة الحكاية وعلم أهل هذا الشأن بأن الأسرع لحوقًا بالنبي صلى الله عليه وسلم هي زينب فتعود الضمائر إلى من هي مقرّرة في أذهانهم، أو أن الضمائر تعود إلى التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقها به أولاً ا. هـ (8) .

قال ابن حجر – رحمه الله -: والدليل على أن عائشة - رضي الله عنها - لا تعني سودة بهذه المنقبة، قولها «فعلمنا بَعْدُ ».

أي علمنا بَعْدَ موت زينب - رضي الله عنها - أن المُخْبَر عنها إنما هي الموصوفة بكثرة الصدقة، لموتها قبل الباقيات، وهذا الأسلوب، من باب إضمار ما لا يصلح غيره، كقوله تعالى: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) (9) ا.هـ.

ويؤكد هذا المعنى الزَّين ابن المنير – رحمه الله - حيث قال: وجه الجمع بين حديث البخاري ومسلم أن قول عائشة - رضي الله عنها -: « فعلمنا بعدُ » يشعر إشعارًا قويًا أنهن حملن طول اليد على ظاهره بطول الجارحة أو العضو، ثم علمن بعد ذلك خلافه وأنه كناية عن كثرة الصدقة، فالذي علمناه آخرًا خلاف ما ظننه أولاً، وقد انحصر الثاني في زينب للاتفاق على أنها أولهن موتًا فتعين أن تكون هي المرادة. ا.هـ.

ولفظ النسائي الذي رواه عن أبي داود الحراني: «فكانت سودة أسرعهن به لحوقًا » سياقٌ لا يحتمل التأويل والجمع، إلاّ أنَّه محمولٌ على دخول الوهم على الراوي في التسمية خاصَّة (10)  .

2/ وفيه فضيلة عظيمة وبشارة كريمة لأم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها - تنضمّ إلى ما أثر عنها من الشمائل الحسنة (11) .

3/ تضمن الحديث الحث على الإيثار والإكثار من الصدقة والمداومة عليها في زمن الصِّحة والقدرة على العمل، وأنه سبب للَّحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك الغاية في الكرامة والفضيلة (12) .

4/ وفيه معجزة باهرة، وعلم من أعلام النبوة ظاهر، وهو الإخبار بأمر من الغيب وتحقق وقوعه (13) .

5/ جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز، بغير قرينة في الكلام وهو لفظ «أطولكن يدًا » إذا لم يكن من الأحكام التكليفية، وقد كان السؤال عن آجال مقدّرة لا تعلم إلا بالوحي، فأتى الجواب غير صريح لم يتبين مراده إلا بعد زمن (14) .

وظاهر الحديث كأن النبي صلى الله عليه وسلم علم بمن ستلحقه، ولم يخبر به لأجل التسابق في الخير أو خشية دخول شيء من الحزن إلى نفس المرادة.

6/ وفيه اجتماع نساء النبي صلى الله عليه وسلم عند إحداهن في حياته وبعد ممامته عليه الصلاة والسلام وتنافسهن على اغتنام الخيرات والظفر بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.


 


(1) متفق عليه ، رواه البخاري – واللفظ له – (111ح 1420) و مسلم  (1109ح 2452) و فيه:  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا » قَالَتْ : فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا قَالَتْ: فَكَانَتْ أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ لأِنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَصَدَّقُ.

والنَّسائي (2252ح 2542) وفي آخره: «فكانت سودة أسرعهن به لُحوقًا ، فكانت أطولهن يدًا، فكان ذلك من كثرة الصَّدقة ».

(2)  معجم مقاييس اللغة ص (859).

(3) لسان العرب (1/674)، النهاية (4/67).

(4) لسان العرب (11/414)، شرح ابن بطال (3/419)، إكمال المعلم (7/479)، النهاية (5/293).

(5) ذكره ابن بطال والنووي وغيرهما شرح ابن بطال (3/418)، المنهاج (16/227)، الفتح (3/366)، إرشاد الساري (3/537).

(6) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه – واللفظ له – (7/249ح 35764) ورواه الطبراني في الكبير (24/50ح 134) بسنده عن الشعبي: « أنه صلى مع عمر على زينب وكانت أول نساء النبي موتًا ... ».

(7) رواه في مستدركه (4/26ح 6776) بسنده عن عائشة وسكت عنه الذهبي.

(8) شرح الكرماني (7/190).

(9) سورة : ص من الآية: 32 .

(10) الفتح (3/367)، إرشاد الساري (3/537).

(11) المنهاج (16/227).

(12) الفتح (3/365).

(13) إكمال المعلم (7/479)، المنهاج (16/227)، شرح الكرماني (7/190)، الفتح (3/368).

(14) الفتح (3/368).

 



بحث عن بحث