التربيــــة والقــرآن (2-2)

 

العلاج يتمثل في عدة أمور:

1- تعليمهم القرآن الكريم وتحفيظهم إياه:

وكان هذا نهج السلف الصالح رحمهم الله،فكان أحدهم أول ما يسلك في طلب العلم يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل،وقد ذكر عنهم أنهم كانوا يحفظون القرآن الكريم في سن مبكرة جداً ،مثل السادسة والتاسعة والعاشرة...رحمهم الله.

وهذا العلم هو من أجل العمال التي ينبغي أن يقوم بها الآباء تجاه أولادهم فالاشتغال بحفظ القرآن وتعلمه اشتغال بأعلى المطالب ثم إن فيه حفظاً لأوقاتهم وحماية لهم من الضياع والانحراف فالمرء إن لم ينشغل بالطاعة أنشغل بضدها.

وخير ما يشغل العبد نفسه به كتاب الله وحفظه وتعلمه ،ففيه شفاء للقلب من أمراض الشبهات والشهوات،والأهواء الفاسدة،قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء}فصلت/44.

وقال تعالى:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}.

قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: ( القرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ،ويعود إلى فطرته التي فطر عليها،ويتغذى القلب من الإيمان و القرآن بما يزكيه ويؤدبه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه فإن زكاة القلب مثل نماء البدن).

ولذا لابد من تعليم الأولاد القرآن منذ الصغر فينشأ الطفل ويترعرع على الفطرة السوية السليمة،ويسبق إلى قلوبهم نور الإيمان قبل تمكن الأهواء منها وسوادها باكدار المعصية والضلال.

 

2- حثهم على تدبر القرآن الكريم:

فالله عز وجل أمرنا بتدبر القرآن وحذرنا من إغفال القلب دونه،قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.

فلابد من تدبر القرآن والوقوف عند حدوده،قال الآجري رحمه الله في كتابه أخلاق حملة القرآن: (المؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآة يرى بها ما حسُن من فعله وما قبح فيه،فما حذره مولاه حذره،وما خوفه من عقابه خافه أو ما رغب فيه مولاه رغب فيه ورجاه،فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه ورعاه حق رعايته).

وكذا قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : ( فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها..وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه وطريق الوصول إليه..وتعرفه مقابل ذلك ثلاثة أخرى:ما يدعو إليه الشيطان،والطريق الموصل إليه وما للمستجيب لدعوته من الاهانة والعذاب بعد الوصول إليه).

وهذا التدبر هو المطلوب من كل قارئ ومتعلم لكتاب الله حتى ينتفع بهذا العلم الذي تعلمه. قال تعالى :{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }.

 

3-  تحصينهم بالأذكار الشرعية:

فلابد من تحصين الأولاد بالمعوذات والأذكار الشرعية ماداموا صغاراً ،فإذا صاروا مميزين حفظوهم إياها وعودوهم عليها.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه بتعويذ الحسن والحسين رضي الله عنهما ،فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة من كل عين لامة)، وكذا قال صلى الله عليه وسلم : (اكتفوا صبيانكم عند العشاء ؛فإن للجن انتشاراً وخطفه).

أي: امنعوا أولادكم الحركة في هذا الوقت وضموهم إليكم.

 

4- التعريف بالله عز وجل:

فلابد من تعريف الآباء أولادهم بالله عز وجل فمن كان بالله أعرف كان له أعبد.ومتى ضعفت معرفة العبد بالله سبحانه،لم يقدره حق قدره وبالتالي فعل ما فعل غير مبال بما إذا كان يرضي الله أو يسخطه،فيرضخ لأهواء نفسه ولكيد الشيطان،ويتأثر بصحبة السوء.قال تعالى: { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى : (وهذه المحبة إذا رسخت في القلب أوجبت خشية الله لا محالة).

فلابد من تعريفهم بالله معرفة توجب محبته والحياء منه وخشيته ورجاءه والتوكل عليه والرضا بقضائه والصبر على بلائه.

فمتى تجلت هذه المعرفة في النفس وأحب العبد خالقه استحيا منه حق الحياء،فيستحي أن يراه الله حيث نهاه وأن يفقده حيث أمره.

 

5- تعويد الأولاد على ضبط الهوى منذ الصغر:

كثيراً ما يغفل الآباء عن هذا الأمر،فيبالغون في تلبية رغائب ودوافع أولادهم حتى وإن كانت مخالفة للمشروع،فيكبر معه الانسياق وراء العواطف والرغائب،وكذا يصير فريسة الشيطان وهوى النفس.

إذا من شب على شيء شاب عليه-إلا من رحم الله- والأولاد مفطورون على التوحيد وعلى كل خلق فاضل من حياء وصدق وعدل ..وغيره. إلا أن الوالدين بتربيتهم وسلوكهم يمثلون الدور الأول في طمس هذه الفطرة أو انحرافها.قال تعالى : { ..فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...}

وقال صلى الله عليه وسلم : (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه،كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء).

 

6- تجنيبهم صحبة السوء ومخالطة من لا ينفع:

فعلى الوالدين تعليم أولادهم من يصاحبون ومن يخالطون،فأمر الصحبة والخلطة أمر في غاية الأهمية،ولا يخفى على أحد مدى آثرهما .

والصحبة لابد أن تكون في الله حتى ينتفع بها الأصحاب ،قال تعالى : {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.

وأساس هذه المحبة والصحبة التي لله أن يقترب كلا المتصاحبان بها إلى الله.قال بن تيمية: (فالمحبون لله يجذب إلى محبة الله والمحب لله إذا أحب شخصاً فإن الله هو محبوبه..فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله).

وقال ابن القيم: (أعلم أن المحبة في الله من تمام محبته وموجباتها لا من قواطعها فإن محبة الحبيب تقتضي محبة ما يحب ومحبة ما يعين على حبه ويوصل إلى رضاه وقربه).

فلابد من التنبيه لهذه القضية وتتبع الأولاد ومساءلتهم عمن يخالطون ومن يصاحبون وما هو أساس صحبتهم وعلى ماذا تدور اجتماعاتهم ولقاءاتهم.

وحثهم على ترك مخالطة من لا تنفع خلطته،قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح فإن الطبع يسرق،فإن لم يتشبه لهم ولم يسرق منهم فتر عن عمله، وكثير من فساد الأولاد في يومنا هذا كان سببه الأول صحبة الأشرار ).

 

7- تعليمهم بمن يقتدون ومن يتبعون نهجه:

فالإنسان مفطور على حب التقليد وهي غريزة فيه فلابد من تهذيب هذه الغريزة في نفس الأولاد وتعليمهم بمن يقتدون ،وبمنهج من يقتفون،قال تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ..}، وقال تعالى : {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.

وقال صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ...)، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

وقد استدل ابن القيم رحمه الله بهذه الآية على منزلة الاعتصام فقال في مدارج السالكين: (أي: متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد،وعداوتهما أضر من العدو الخارجي ،فالنصر على هذا العدو أهم،والعبد إليه أحوج،وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الاعتصام بالله).

فعلى الأولاد أن يتعلموا أن المصدر الذي ينبغي أن يأخذوا منه هو كتاب الله وسنة نبيه على الصلاة والسلام،وأن يحذروا الاستنان بمن ليس أهلاً  لذلك من الجهلة والفسقة والفجرة والمتعالين والمضلين.

وقد ذكر الشاطبي رحمه الله هذه المسألة في كتابه الاعتصام وذكر أنه ينبغي الحذر من التقليد المذموم فقال: (وفيما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه :" إياكم والاستنان بالرجال ،فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار،وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة،فإن كنتم لابد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء".فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين،وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة،حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه؛إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة).

 

8- الاستعانة بالله ودعائه:

فعلى الآباء الاستعانة الكاملة بالله عز وجل والتضرع إليه ودعاؤه،وقد أمرنا الله بذلك في كتابه فقال سبحانه:  {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : ( قال تعالى: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني اهدكم).

والدعاء والاستعانة بالله من أنفع الأمور التي ينبغي أن يتمثلها العبد في كل أموره وسائر أقواله وأعماله، وكم من الآباء من تعذر عليه تربية أولاده واستعصى عليه أمرهم فلجأ إلى الله وتضرع إليه واستعان به فأعانه الله ،واستجاب دعائه فصلح أمر أولاده.

 

                                                                            أ د . ابتسام بدر الجابري



بحث عن بحث