الأحاديث القدسية الصحيحة الصريحة – حرف الياء (5-13)

 

 

الحديث السادس عشر: عن ابن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: «يجمع الله الأولين والآخرين لميقاتِ يومٍ معلومٍ قيامًا أربعين سنة، شاخِصَةً أَبْصَارُهم، ينتظرون فصل القضاء. قال: وينزل الله -عز وجل- في ظُلَلٍ من الغمامِ من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مُنَادٍ: أيها الناس! ألا ترضوا من ربكم الذي خلقكم، ورزقكم، وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، أن يُوَلِّي كل أناس منكم ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا؟ أليس ذلك عدلا من ربكم؟ قالوا: بلى. قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا. قال: فينطلقون ويُمَثَّلُ لهم أَشْبَاهُ ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر والأوثان من الحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون. قال: ويُمَثَّلُ لمن كان يعبد عيسى شيطانُ عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عُزَيْرًا شيطان عزيز، ويبقى محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته. قال: فيَتَمَثَّلُ الرَّبُّ -تبارك وتعالى- فيأتيهم فيقول: ما لكم لا تنطلقون كانطلاق الناس؟ فيقولون: إن لنا لإلهًا ما رأيناه، فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه علامةً، إذا رأيناها؛ عرفناها، قال: فيقول: ما هي؟ فتقول: يَكْشِفُ عن ساقِه. قال: فعند ذلك يَكْشِفُ عن ساقِه، فيخر كل مَنْ كان نَظَرَه، ويبقى قوم ظهورهم كصَيَاصِيِّ البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدْعَوْنَ إلى السجود وهو سالمون، ثم يقول: ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم، فيُعْطِيهم نورَهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يُعْطَى نورَه مِثْلَ الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يُعْطَى نورَه أصغرَ من ذلك، ومنهم من يُعْطَى مِثْلَ النَّخْلَةِ بيده، ومنهم من يُعْطَى أصغرَ من ذلك، حتى يكونَ آخرهم رجلا يُعْطَى نورَه على إِبْهَامِ قَدَمَيْه يُضْيءُ مَرَّةً ويُطْفِئُ مَرَّةً، فإذا أَضَاءَ؛ قَدَّمَ قَدَمَه وإذا أُطْفِئَ؛ قام. قال: والرب -تبارك وتعالى- أمامهم حتى يَمُرَّ في النار فيبقى أثره كحدِّ السيف، دحض مزلة. قال: فيقول: مروا، فيمرون على قَدْرِ نورهم؛ منهم من يمر كطَرْفَةِ العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانْقِضَاضِ الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشدِّ الفرس، ومنهم من يمر كشدِّ الرَّجلِ، حتى يَمُرَّ الذي يُعْطَى نورَه على ظَهْرِ قَدَمَيْه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تَخِرُّ يَدٌ وتَعْلَقُ يَدٌ، وتَخِرُّ رِجْلٌ وتَعْلَقُ رِجْلٌ، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يَخْلُصَ، فإذا خَلُصَ؛ وقف عليها فقال: الحمد لله؛ فقد أعطاني الله ما لم يُعْطِ أحدًا؛ إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها. قال: فينطلق به إلى غَدِيرٍ عند باب الجنة، فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خَلَلِ الباب، فيقول: ربّ! أدخلني الجنة. فيقول الله: أتسأل الجنة وقد نَجَّيْتُك من النار؟ فيقول: ربّ! اجعل بيني وبينها حجابًا لا أسمع حَسِيسَها. قال: فيدخل الجنة ويرى، أو يرفع له منزل أمام ذلك، كأن ما هو فيه إليه حُلْمٌ، فيقول: رب! أعطني ذلك المنزل، فيقول له: لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا، وعزتك لا أسألك غيره، وأيُّ منزل أحسن منه؟ فيعطى فينزله، ويرى أمام ذلك منزلا كأن ما هو فيه إليه حلم، قال: رب! أعطني ذلك المنزل. فيقول الله -تبارك وتعالى-: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا، وعزتك يا رب، وأيّ منزل يكون أحسن منه؟ فيعطاه فينزله، ويرى أمام ذلك منزلا كأن ما هو فيه إليه حلم، قال: رب! أعطني ذلك المنزل. فيقول الله -تبارك وتعالى-: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا، وعزتك يا رب، وأيّ منزل يكون أحسن منه؟ فيعطاه فينزله، ثم يسكت فيقول الله -جل ذكره-: ما لك لا تسأل؟ فيقول: رب! قد سألتك حتى قد استحييتك، وأقسمت حتى استحييتك، فيقول الله -جل ذكره-: ألم ترض أن أُعْطِيَك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أَفْنَيْتُها وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة؟! فيضحك الرب -تبارك وتعالى- من قوله». قال: فرأيت عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث؛ ضحك، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! قد سمعتك تُحَدِّثُ هذا الحديث مرارًا، كلما بلغت هذا المكان؛ ضحكت! قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ هذا الحديثَ مرارًا، كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث؛ ضحك حتى تَبْدُوَ أضراسه. قال: «فيقول الرب -جل ذكره-: لا، ولكني على ذلك قادر، سل. فيقول: ألحقني بالناس، فيقول: الحق بالناس، قال: فينطلق يَرْمُلُ في الجنة، حتى إذا دنا من الناس؛ رُفِعَ له قصر من دُرَّةٍ، فيخر ساجدًا، فيقال له: ارفع رأسك ما لك؟ فيقول: رأيت ربي -أو تراءى لي ربي- فيقال له: إنما هو منزل من منازلك. قال: ثم يلقى رجلا فيتهيأ للسجود له، فيقال له: مه! فيقول: رأيت أنك ملك من الملائكة، فيقول: إنما أنا خازن من خزانك وعبد من عبيدك تحت يدي ألف قَهْرَمَانٍ على مثل ما أنا عليه. قال: فينطلق أمامه حتى يُفْتَحَ له القصرُ. قال: وهو من درة مُجَوَّفَةٍ، سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرة خضراء مُبَطَّنَةٌ بحمراء، فيها سبعون بابًا، كل باب يُفْضِي إلى جوهرةٍ خضراء مبطنة، كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى، في كل جوهرة سُرُرٌ وأزواجٌ ووصائفُ، أدناهن حوراء عيناء، عليها سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء حللها، كَبِدُها مِرْآتُه وكَبِدُه مِرْآتُها، إذا أعرض عنها إعراضة؛ ازدادت في عينه سبعين ضعفًا عما كانت قبل ذلك، فيقول لها: والله لقد ازددت في عيني سبعين ضعفًا، وتقول له : وأنت ازددت في عيني سبعين ضعفًا، فيقال له: : أَشْرِفْ، فيشرف، فيقال له: مُلْكُك مسيرة مائة عام يَنْفُذُه بصرك». قال: فقال عمر: ألا تسمع ما يحدثنا ابن أم عبدٍ -يا كعب!- عن أدنى أهل الجنة منزلا؟ فكيف أعلاهم؟ قال: يا أمير المؤمنين! ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، إن الله -جل ذكره- خلق دارًا جعل فيها ما شاء من الأزواج والثمرات والأشربة، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه؛ لا جبريل ولا غيره من الملائكة. ثم قال كعب : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). قال: «وخلق دون ذلك جنتين، وزينهما بما شاء، وأراهما من شاء من خلقه، ثم قال: من كان كتابه في عليين؛ نَزَلَ في تلك الدار التي لم يرها أحد، حتى إن الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فلا تبقى خيمة من خِيَمِ الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه، فيستبشرون بريحه فيقولون: واهًا لهذا الريح! هذا ريح رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه». قال: ويحك يا كعب! إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها. فقال كعب: إن لجهنم يوم القيامة لزفرة، ما من مَلِكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبي مرسل إلا خَرَّ لركبتيه، حتى إن إبراهيم خليلَ الله ليقول: ربّ! نفسي نفسي، حتى لو كان لك عمل سبعين نبيًّا إلى عملك لظننت أن لا تنجو(1) .


 


(1)  (صحيح) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9647) ، والحاكم بنحوه (8751) عن عبد الله بن مسعود. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3591 ، 3704).

 



بحث عن بحث