من مفسدات الصيام (2-2)

 

الوقفة الثانية:

إذا كان الصوم بهذه المنزلة العظيمة الجليلة، فَرَغِمَ أنفُ عبدٍ لم يستفد من صومه، ولم يقربه إلى ربه سبحانه، ولم يربِّ فيه معانيَ الرجولة ومقاربة الكمال البشري علمًا وعملًا، خلقًا وسلوكًا.

 

وإن المستفيد من هذا الصوم – وبخاصة في هذا الشهر المبارك – هو الذي تعمل جوارحه كلها بالصيام، فكما يصوم في النهار عن الطعام والشراب والنكاح، تصوم جوارحه عن كل ما يجرح الصيام، وعمدة هذه الجوارح وملكها القلب، فيصفّي قلبه عن كل ما يكدر صفاءه ونقاءه من الأَحقاد والضغائن، والغل والحسد، والظن السيء والبغض.

وكذا اللسان، الناطق عن الجوارح، وأداة الإِرسال، والمعبر عن مكنونات الضمير، وما يحمله الفؤاد، وما يجيش به الخاطر، تلك الآلة الخطيرة، والوسيلة الفاعلة التي إن سخرت في مجالات الخير والدعوة أعطت نتائج وثمارًا يانعة، وإن سخرت في الشر – والعياذ بالله – أوردت صاحبها المهاوي والمهالك، ولهذا كثر في وصايا رسول الله التنبيه على اللسان، فكم من كلمة رفعت صاحبها في عليين، وجعلته من الآمرين بالمعروف والداعين إلى الخير، وكم من كلمة أودت بصاحبها في أسفل سافلين.

 

وإذا ما انتقلت إلى سائر الحواس والجوارح من السمع والبصر تجدها كذلك بحاجة إلى تربيتها على البر والطاعات، والمسابقة إلى الخيرات، والمسارعة إلى صنائع المعروف.

 

ولنتدبر قول الرسول فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة: «كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحدٌ أو قاتله، فليقل إني صائم»(2).

 

فلو رجعت إلى الحديث وكررت تلك العبارة: «يدع شهوته وطعامه من أجلي» فسبب الترك للملذات والشهوات من أجل الله سبحانه وتعالى، أفلا يكون عملنا للواجبات والمستحبات من أجل الله تعالى؟ وتركنا لجميع المحرمات والمكروهات من أجل الله تعالى؟ إن هذه غاية عظمى ترنو إليها القلوب الذاكرة والأَفئدة الصافية، ومثل هذه القلوب يحرص الشيطان أن يدخل عليها ليكدر صفوها، بأن يخرق هذا الإخلاص، فيجمع معه نوايا فاسدة من نظر العباد والرياء، أو رغبته في مصالح دنيوية قريبة، ونحو ذلك مما يخدش هذا الإِخلاص فيخرج صاحبه من دائرة الأَجر والثواب إلى دائرة الإِثم، والعياذ بالله.

ثم لنتأمل قوله : «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم».

 

تربية أيّما تربية للفؤاد والجوارح، وتحكم في العقل والعاطفة بأن يكون الموجه لها هو الدين متمثلًا في هذا الصيام، فالصيام هو الذي يمنع الصائم من ممارسة الأعمال المشينة، والكلام غير اللائق، يؤكد هذا ما جاء عن رسول الله أنه قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(3)، قال جابر: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن صومك وفطرك سواء».

 

إن قلب المؤمن الصائم أبيض نقي، يحركه الإيمان في شعب الخير المتعددة، ويأتي رمضان والصيام ليغسل ما رَانَ عليه من الأَوساخ والدنس، فلا تجعل الأَعمال المشينة، والممارسات السيئة، تختلط في هذا القلب النقي؛ فَصُنْ جوارحك وحواسك كلها عن ما يغضب ربك ومولاك، فبغض المسلمين وحسدهم والحقد عليهم، والكذب والخيانة، والغش والخداع، والغيبة والنميمة، وقول الزور، واللهو بالباطل، والسباب والشتائم، أمراض خطيرة فتاكة، تكدر صفو الصيام وتفسده، وتورد صاحبها المهالك.

 

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر زللنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا، وأن يعفو عن أخطائنا، وأن يعيننا على أنفسنا ولا يكلنا إليها ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين، إنه سميع مجيب وهو المستعان.

 

-------

(2) رواه البخاري مع الفتح (4/118)، برقم(1904) في الصيام، باب هل يقول: إني صائم، ومسلم (2/806)، برقم(1151) في الصيام، باب فضل الصيام.

(3) رواه البخاري مع الفتح (4/116)، برقم(1903) في الصيام، باب من لم يدع قول الزور، وأبوداود (1/720) (2362) في الصوم، باب الغيبة للصائم.



بحث عن بحث