حكمة الصيام التقوى -3

 

الوقفة الثامنة:

هذه الآثار الجليلة، والثمار الطيبة، ليست من نصيب من ادّعى تلبس التقوى بدون تصديق بالجوارح، وإحياء بالسلوك، فللمتقي سمات يعرف بها، وللعامل صفات يتميز بها، فمن أراد أن ينضم في سلك المتقين، وأن يلج ميدان المتنافسين، وأن يكون عاملًا في مجتمع المتقين، فليستمع إلى تلك الأوصاف، ولتظهر عليه تلك العلامات قولًا وفعلًا، حسًّا ومعنى، يقول تعالى مبيِّنًا سمات المتقين: ﴿الم*ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ*أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 1 – 5].

 

ويقول في بيان مزيد من تلك الأوصاف: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].

وفي آيات أُخر يضيف أوصافًا أخرى فيقول: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 133 – 135].

 

ويتحل من مجمل ما مرَّ من آيات عظيمة أن من أبرز صفات المتقين: الإِيمان بالغيب، وإقامة الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام، والإنفاق في سبيل الله من الزكاة المفروضة والصدقة المستحبة، والتبرع في مجالات الخير المختلفة، والأَخلاق العالية التي تصل في علوها إلى درجة ضبط عواطف الإِنسان وكبح نزواته، وتحمل سيئات الآخرين عليه، والتوبة والاستغفار والإِنابة عند الزلل والوقوع في المعصية على حين غفلة أو ضعف نفس، وكذا الاستجابة الفورية لنداءات الله تعالى، فيكون القلب حاضرًا لتلبية تلك النداءات.

وإذا بحثت عن التقي وجدته

وإذا تقى الله امرؤ فأطاعه

رجلًا يصدّق قوله بفعالِ

فيداه بين مكارمٍ ومعالي

 

أيها المسلمون الكرام:

إن أيام السنة تمضي، والعمر سرعان ما ينقضي، والأَعمال المختلفة تتلاحق، والإنسان في دوامة من المشاغل لا تنتهي، ولا شك أنها تمر أوقات وأحداث تنبهه للرجوع إلى مولاه، فيؤوب ويرجع وسرعان ما يتلاشى ويضعف، وهكذا، وسبب ذلك كله ومرده أجمعه إلى فقدان تلك الكلمة الصغيرة لفظًا، الكبيرة معنًى (التقوى) فإذا ما دعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى تجاوز حدود الله تعالى، وسوّلت لك ارتكاب معصية أو مخالفة أمر، فتذكر وتأمَّل (التقوى) واجعلها بين عينيك، في بيتك، وبين أسرتك، وفي مكتبك، وبين موظفيك، وفي الشارع، وبين إخوانك المسلمين، وفي أداء عبادتك وعلاقتك بربك، وفي كل شأن من شؤون حياتك.

 

ولعل رمضان ونحن في أيامه الأولى، ونوازع الخير في النفوس قائمة، وللأَعمال الصالحة راغبة، أن يحيي بنا هذه الشعيرة العظيمة، ونعاهد الله تعالى لتحقيقها، مستشعرين وصيته سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، لابسين لباس التقوى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: 26]، ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

جعلني الله وإياكم من المتقين الأبرار، اللابسين لباس التقوى في الليل والنهار، إنه سميع مجيب عزيز غفّار، وهو المستعان.



بحث عن بحث