القاعدة التاسعة: استخدام الأساليب التربوية المختلفة (5-7)

ثالثًا: التربية بالميول والقدرات:

ومن الأساليب التربوية النبوية، رعاية المواهب والقدرات عند الإنسان وتنميتها واستثمارها في الاتجاه الصحيح، واحتفت السنة النبوية بكثير من المواقف التي كان النبي ﷺ يستعمل فيها هذا الأسلوب، منها:

1 ـــ تصنيف بعض الصحابة بمهارات وقدرات مختلفة:

لقد صنّف النبي ﷺ مجموعة من الصحابة رضوان الله عليهم، لما تميّزوا به من الكفاءات والمهارات، في المجالات المختلفة، كما في قوله: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(1). رضي الله عنهم أجمعين.

وفي هذا الحديث تصنيف واضح لكل صحابي لما لديه من المهارات والقدرات، وفق الآتي:

- فأبو بكر الصديق رضي الله عنه: غلب عنده جانب اللين والرحمة مع الصحابة على سائر الخصال، رغم ما عنده من الخلال الفاضلة الأخرى، كالحزم في الحق والغضب إذا انتهكت حرمات الله، كما ظهر ذلك واضحًا في محاربته لمانعي الزكاة، والتي قال فيها قولته المشهورة: «والله لو منعوني عَنَاقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها»(2).

- وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أثنى النبي ﷺ عليه بما عنده من الشجاعة والجرأة والشدة في الحق، مما جعل كل الذين من حوله يحسبون له حسابًا قبل أن يقدموا على فعل أية مخالفة أو محظور، لأنهم يعلمون العقوبة التي تنتظرهم من عمر ط، وكان هذا معروفًا في سيرته ط، فقد خالف الصحابة جميعًا في الهجرة حيث هاجر علانية وأمام الملأ دون خوف أو وجل، كما أنه رضي الله عنه هو الذي قال له النبي ﷺ: «إيهٍ يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجِّك»(3).

- كما ذكر عليه الصلاة والسلام خصلة الحياء عند عثمان بن عفان رضي الله عنه والتي تأتي في مقدمة الخصال الحميدة الأخرى التي يتصف بها هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه.

- وأشار عليه الصلاة والسلام إلى ما يتمتع به أبيّ بن كعب رضي الله عنه من ملكة حفظ كتاب الله تعالى وقراءته وتلاوته.

- وذكر عليه الصلاة والسلام ما تميّز به زيد ثابت في علم الفرائض والمواريث.

- أشار عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل في تميّزه عن غيره في أمور الحلال والحرام، كما جاء هذا التوصيف والتصنيف في حديث آخر حين بعثه النبي ﷺ إلى اليمن، يقول معاذ رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ حين بعثه إلى اليمن فقال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله ﷺ. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ﷺ؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله ﷺ صدري ثم قال: «الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله ﷺ لما يرضي رسول الله ﷺ»(4).

يلاحظ في هذا الحديث أن النبي ﷺ وجد عند معاذ رضي الله عنه المنهج العلمي الصحيح حين يعرض عليه أي قضاء، وأن التسلسل الذي تحدث به معاذ رضي الله عنه كان دقيقًا وصائبًا، لذلك أظهر عليه الصلاة والسلام علامات الرضى على معاذ حين ضرب على صدره وحمد الله على ما أنعم على هذا الصحابي من علم ودراية في أمور دينه.

وفي ذلك تشجيع لمعاذ رضي الله عنه أن يثبت على هذا المنهج ويتزود أكثر من هذا العلم الذي تعلمه من رسول الله ﷺ.

- وأخيرًا ذكر عليه الصلاة والسلام أمانة أبي عبيدة بن الجراح وأنه يتميّز بهذه الخصلة التي تأتي في مقدمة خصاله الكثيرة.

وهكذا كان يربي النبي ﷺ صحابته من خلال تنمية المهارات والقدرات الكامنة عند كل واحد منهم.

2 ـــ تنمية قدرات الحفظ والقراءة لكتاب الله :

 قوله ﷺ: «استقرئوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود فبدأ به وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل»(5).

ففي هذا الحديث إشارة إلى أن هذه المجموعة من الصحابة رضوان الله عليهم هم في مقدمة المقرئين لكتاب الله في ذلك الوقت، حيث رأى النبي عليه الصلاة والسلام فيهم ملكة الحفظ والقراءة لكتاب الله تعالى أكثر من غيرهم، فذكر أسماءهم، ليكون حافزًا لهم ولغيرهم أن يتعلموا هذا القرآن ويقرؤوه ويعلّموه الأجيال من بعدهم.

3 ـــ تكليف أحد الصحابة بتعلم كتاب اليهود:

 ونجده عليه الصلاة والسلام يحدد صحابيًا لتعلم لغة اليهود وكتاباتهم لما عنده من قدرات ذهنية وحفظية يتميّز بها على غيره من الصحابة، فعن خارجة ابن زيد أن أباه زيدًا أخبره أنه لما قدم النبي ﷺ المدينة قال زيد ذهب بي إلى النبي ﷺ فأعجب بي فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فأعجب ذلك النبي ﷺ وقال: «يا زيد تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهود على كتابي قال زيد فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه وأجيب عنه إذا كتب»(6).

4 ـــ تنمية الإقدام والشجاعة عند الصحابة:

وفي تنمية الجرأة النفسية والقوة البدنية التي تشكل صفة الشجاعة عند الإنسان، فإن النبي ﷺ سمح لرافع بن خديخ وسمرة بن جندب المشاركة في معركة أحد رغم صغر سنّهما، بعدما أخبروه الصحابة أن رافعًا رام، فأجازه النبي ﷺ، ثم قيل له يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعًا فأجازه أيضًا(7).

5 ـــ تقوية المهارات الأدبية:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجلان من المشرق فخطبا فقال النبي ﷺ: «إن من البيان لسحرا»(8).

وهنا همسة إلى الآباء في عدم قسر أبنائهم على ما لا يطيقون، وإهمال ما يطيقون، وضرورة الاستفادة من التقنيات الحديثة، لتحديد ميولاتهم وقدراتهم واستثمارها في سبل الخير المختلفة ونحو الغايات النبيلة، وذلك بتأمين الآليات اللازمة لذلك وتوفير الأجواء المناسبة التي يمكن من خلالها أن يخرجوا هذه المهارات إلى الواقع ويطورها بصورة ينتفع منها المجتمع والأمة.

    

اكتشاف القدرات والمهارات:

هناك مجموعة من الآليات والعوامل التي تساعد في اكتشاف الموهبة أو المهارة عند الإنسان منذ طفولته، ومن أهمها:

أ – حبّ الاستطلاع والتعرف على الأشياء، من دلائل وجود النزعة الإبداعية في الإنسان، لا سيما في مراحل الطفولة، فالطفل الذي يحاول التعرف على ما يجري حوله، حيث يتدخل أحيانًا في شؤون الكبار للقيام بأعمالهم، فهذا مؤشر على وجود الملكة الإبداعية عند هذا الطفل.

ب – القيام بأداء الأعمال الموكلة إليه خير قيام، وهو من العلامات الواضحة لوجود الموهبة والمهارة عند صاحبها، لأن من يفقد المهارة لا يتحمل المسؤولية ولا يستطيع أن ينجز الأعمال إلى النهاية.

ج – الثقة بالنفس والتحدث والتعامل مع الآخرين بجرأة وشجاعة، من علامات النبوغ عند صاحبه، ووجود القدرات والمهارات لديه.

د – الانسجام السريع مع الآخرين، وبناء العلاقات السريعة مع الزملاء، وقيادتهم بعد ذلك، من دلائل وجود الموهبة عند الإنسان.

هـ – ومن مؤشرات المواهب في الإنسان، المحافظة على الوقت وتنظيمه واستثماره في الأمور الجادة.

و – الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن من علامات وجود المهارة عند صاحبها.

ز - وجود سرعة البديهة في المواقف الطارئة، والخروج من المواقف الحرجة بدهاء وذكاء.

وغيرها كثيرة هي المؤشرات والدلائل التي تعين في اكتشاف الموهبة والمهارة عند الإنسان.

 

تنمية المهارات والمواهب:

حين تكتشف المهارات والقدرات عن الأطفال والشباب والبنات، لا بد من الحفاظ عليها وتنميتها بالطرق المناسبة، ومن أهمها:

أ – مجالسة أصحاب المهارات والمبدعين، للاستفادة منهم في تحصيل العلوم والمعارف التي تساعدهم على الإبداع والابتكار، كما يستفاد من تجاربهم السابقة في مجالات الاجتهاد والإبداع، يقول عليه الصلاة والسلام: «مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة»(9).

ب – القراءة الفردية والثقافة الذاتية، الأمر الذي يكشف للإنسان مزيدًا من المعارف والعلوم، لأن الكتب والمصنفات هي خلاصة ما لدى أصحابها من العلوم، حسب تخصصه، وبذلك فإنه يمكن جمع أكبر كمية من المعلومات المختلفة أثناء القراءة والمطالعة الذاتية لهذه الكتب والدراسات، يستفاد منها في تنمية المهارات والقدرات.

ج – تنمية ملكة التأمل والتخيل عند الإنسان في مراحله الأولى، وذلك من خلال تكليفه بأعمال تقتضي ذلك، مثل تكليفه بكتابة قصة قصيرة عن حدث أو مشكلة يصنعها هو ويعالجها بالقصة نفسها. أو عمل اختبار له بوضع جميع التصورات والتأملات لديه وماذا يمكن أن يستفاد منها؟ وهكذا.

د – التعامل مع الألعاب - في المراحل العمرية الأولى -، لا سيما التي تعتمد على التفكير والخيال، مثل المكعبات والمثلثات وغيرها، وكذلك الألعاب التي فيها ألغاز ومسائل رياضية، كل ذلك يعين في تنمية المواهب والمهارات عند الإنسان.

هـ – الحث والتشجيع على تنمية المهارات الفكرية من خلال تقديم الجوائز والمكافآت للمتميّزين، لإحداث روح التنافس بين الناس ويسعى كل واحد منهم ليقدم أفضل ما عنده في الساحة أو المجال المتخصص فيه.

و – رعاية الموهوبين وتوفير الأجواء المناسبة لتنمية مهاراتهم، وذلك بتوفير الراحة النفسية لهم، وقضاء حوائجهم المعيشية، وتعليمهم في أفضل المراكز العلمية، وتوفير جميع الأدوات والآليات اللازمة لذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه الترمذي (5: 665 ، رقم 3791)

(2) أخرجه البخاري: (2: 507 رقم 13: 1235)

(3) أخرجه البخاري (3: 1347 رقم 3480)

(4) أخرجه أبو داود (3: 303 ، رقم 3592)

(5) أخرجه البخاري (9: 312 رقم 3758)

(6) أخرجه الترمذى (5: 67 رقم 2715)

(7) السيرة النبوية لابن هشام ( 3: 29)

(8) أخرجه البخاري (5: 1976 رقم 4851)

(9) أخرجه البخاري (5: 2104 ، رقم 5214)



بحث عن بحث