القاعدة التاسعة: استخدام الأساليب التربوية المختلفة (1-7)

مدخـل:

كان النبي ﷺ يستخدم أساليب تربوية مختلفة من أجل إيصال المعلومة إلى المدعوين، وتختلف هذه الأساليب بحسب ما تتطلبه العملية التربوية، ومن الخير تنوعها، واستخدام كل أسلوب في مناسبته ومقامه، كما يفعل النبي ﷺ، ومن أهم هذه الأساليب:

 

أولاً: التربية النبوية بالقدوة:

لا يستطيع أي مربّ أو تربوي مهما كان ناجحًا أن يوصل رسالته التربوية للآخرين ويؤثر فيهم من غير أن يكون هو نفسه أنموذجًا صحيحًا لما يدعو إليه من مبادئ وقيم وأخلاق، لأن هذه القيم تبقى مثاليات نظرية مجردة إذا لم تترجم على الواقع من قبل المنظِّر لها والداعي إليها.

والنفس البشرية بفطرتها تتجاوب مع هذه الحقيقة، لذا، كان من أهم المعالم التربوية في الهدي النبوي وجود القدوة الحسنة والصالحة أمام المدعوين والتي تمثّلت في شخص الرسول ﷺ، لأن حياة النبي عليه الصلاة والسلام كانت ترجمة للمبادئ والتعاليم الربانية التي جاءت في كتاب الله، في جميع نواحي الحياة، المتعلقة بتعامله عليه الصلاة والسلام مع الله تعالى ومع أهل بيته والصحابة من حوله ومع الصغار والنساء وحتى مع أعدائه في أوقات السلم والحرب، وقد أخبر الله تعالى الأمة بهذه الحقيقة فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1).

وصدق حسان رضي الله عنه حين قال:

ويُنْقذُ من هَوْل الخَزَايا ويُرْشِدُ ***معلمُ صدقٍ، إن يطيعوهُ يسعدوا

فَمِنْ عندْه تَيْسيرُ ما يَتَشدّدُ *** يدُلُّ على الرحمن مَنْ يقتدي به

إمامٌ لهم يهديهمُ الحقَّ جاهدًا *** وإنْ ناب أمرٌ لم يقوموا بحمله

وتنوعت مظاهر القدوة الحسنة وتعددت أشكالها للنبي ﷺ بحسب المبادئ التي يدعوا إليها والميادين التي يعمل فيها، ومن أهم هذه المظاهر:

 

1 ـــ القدوة في العبادة :

لم يحث النبي ﷺ على عبادة أو طاعة إلا كان هو المتقدم الأول للقيام بها، بل إنه عليه الصلاة والسلام يعبد الله حتى تتفطر قدماه، ثم يأمر الصحابة بالطاعة حسب ما يطيقون، ولا يشدّ عليهم في ذلك، عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا فلما كثر لحمه صلى جالسا فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع»(2).

وفي الصحيح من حديث عائشة: «كان رسول الله إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله»(3).

وهذا يعني أنه عليه الصلاة والسلام كان القدوة الحسنة الماثلة أمام الصحابة رضوان الله عليهم حين يعلّمهم العبادات ويحثهم عليها، ويذكّرهم بالأجر الكبير والثواب العظيم المترتب على ذلك.

 

2ـــ القدوة في التعامل مع أهل بيته:

لقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خلق النبي ﷺ فقالت: «كان خلقه القرآن»، فانبثق سائر أعماله عليه الصلاة والسلام من هذا الخلق العظيم الذي أشار إليه القرآن الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4)، وكان إظهار هذا الخلق واضحًا في بيته مع زوجاته وبناته، حيث كان يحدثهم بأطيب الكلمات وأرق التعابير، وكان يلاعبهم ويلاطفهم، ويدخل السرور إلى قلوبهم، ويعدل بينهم ويحنّ عليهم، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله ﷺ معه»(5).

بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم داخل البيت بكثير من الأعمال التي يراها البعض من شأن النساء فحسب، وقد أخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بذلك فقالت: «كان بشرًا من البشر: يفلي ثوبه ويحلب شاته، ويخدم نفسه»(6).

فهذا الخُلق العظيم داخل البيت هو القدوة العملية للصحابة والأمة من بعدهم، التي فيها من الدروس العظيمة في المجال التربوي بالنسبة للمربين والمشرفين على المؤسسات التربوية المختلفة.

ومثل هذه الخصال والخلال كثيرة في حياة النبي ﷺ مع أهل بيته من زوجات وبنات.

 

 3 ـــ القدوة في التعامل مع الناس:

إن من أهم الأركان التربوية التي أرساها رسول الله ﷺ من خلال القدوة الصالحة هو التعامل الإنساني الرفيع مع الصحابة من حوله، رضوان الله عليهم، فلا يحقّرهم ولا يذلهم ولا ينفر منهم، بل يقابلهم بالوجه الحسن المبتسم، ويكلمهم بأسلوب هادئ رزين، ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، وكان يعاملهم معاملة واحدة، حتى يظن أحدهم أنه عليه الصلاة والسلام لا يعامل أحدًا بمثل ما يعامله من الرفق واللطف.

وهذا التعامل من أولويات التربية والدعوة إلى الله، لأنه يحبب المدعو في الداعية قبل أن يتلقى منه ما يدعوا إليه، وصدق الله القائل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(7).

ثم إنه عليه الصلاة والسلام كان يشاورهم في أمور الدعوة وفي التعامل مع الأحداث، دون تمييز أو تفريق بينهم، عربًا كانوا أم عجمًا، فقد أخذ برأي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، وجعل بلالاً مؤذنه الخاص وهو حبشي.

وهذه أسمى صورة للقدوة العملية في التعامل مع الآخرين، فهو نبي هذه الأمة وزعيمها وقائدها، ولكنه في الوقت نفسه، واحد منهم، يشاركهم في حياتهم اليومية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الأحزاب: 21]

(2) رواه البخاري (4: 1830 رقم 3557)

(3) رواه البخاري (2: 711 رقم 1920)

(4) [ القلم: 4]

(5) سبق تخريجه

(6) أخرجه الأمام أحمد(43: 263 رقم 26194)

(7) [ آل عمران: 159]



بحث عن بحث