القاعدة الثالثة: المنهج التربوي منهج متكامل (2-4)

ثانيًا: تربية العقل التربية المتوازنة التي تنميه، وتشغله في حدود قدراته البشرية، فلا تعطله فيبقى كالبهائم، لا حدود ولا ضوابط، كما قال تعالى عن الكفار: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1)، ولا يعطى فوق طاقته، فيعجز ويضل، ويوقعه في المسالك الوعرة، والطرق المظلمة، كما كانت حالة من يدعي تحكيم العقل وتقديمه على النص، فالصحيح ما صححه عقله، والخطأ ما خطأه عقله، فحمّل عقله الضعيف ما لا يتحمل.

أما التربية النبوية فتربي العقل في حدود ما خلقه الله تعالى، فأكد على العلم بل أوجب على المسلم مقدارًا من العلم لا يصح دينه إلا بتعلمه.

وحبّذ على تربيته من جهة التأمل والتفكر في المخلوقات للدلالة على عظمة الخالق جل وعلا، وكذا على اكتشاف ما أودعه الله سبحانه في الكون مما سخّر للإنسان ليستفيد منه في الحياة، ولتكون عونًا على إقامة الحضارة الحقة، كما أقامها رسول الله ﷺ، ولا حاجة للإكثار من الأدلة، فالقرآن الكريم مليء بمثل قوله تعالى: {أفلا تتفكرون}، {أفلا تعقلون}، {إنما يتذكر أولو الألباب}... وغيرها كثير.

وفي المقابل فقد وصف الله تعالى الذين ركنوا إلى الدنيا وجحدوا نعم الله تعالى، بالأنعام لأنهم تركوا سنة التفكر والتأمل التي حث عليها الإسلام، وأعدّ لهم عذابًا أليمًا، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}(2)، ويقول جل ذكره: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(3).

فالمسلم هو الذي يشغل عقله بما يفيده في هذه الجوانب، ومن مقررات ذلك:

أ – التأمل في كتاب الله عز وجل.

ب – القراءة في سنة النبي ﷺ وسنته والتأمل فيها.

ج – القراءة المستمرة بحسب ما يضعه المربي لنفسه أو لغيره.

د – المحاورة والمناقشة مع الآخرين، فيربي الأب أو الأم أو المعلم من تحت أيديهم على الحوار في موضوع معين، ويطلب منهم إبداء ما لديهم، ويصحح أخطاءهم، ويدربهم التدريب المناسب لهم.

هـ - إشغال المتربين بالاستنتاج مما يقرأ، أو يُرى.

و – التأمل في الكون بما يحويه من مخلوقات عظيمة.

وكل هذه المقررات مما حثّ عليها المصطفى ﷺ، وغير خاف حثّه عليه الصلاة والسلام على العلم والتعلم، وكذا تربية أصحابه على الاستنباط.

ثالثًا: تربية الجسم: لقد اعتنى النبي ﷺ بتربية الجسم، فتعددت الأحاديث النبوية في الحث على ذلك – كما سيأتي بعضها – وهذا يعني أن الجسم الصحيح عامل كبير، وسبب أساس لأداء المسلم في وظيفته في هذه الحياة وهي عبادة الله تعالى وكذلك لتحقيق أهدافه من وجوده، وغايته من حياته، كما سبق في وضوح الهدف.

ومن أهم ما ركزت عليه التربية النبوية من مقررات في تربية الجسم:

أ – العناية بالصحة، ولذلك جاءت التوجيهات النبوية بالتوازن في التغذية التي هي الأساس للصحة، فمما ورد عن النبي ﷺ: «ما ملأ آدمي شرا من بطن بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لنفسه»(4)، ومع ذلك فإذا تعرض المسلم لأي نوع مما يؤثر على الصحة فقد أمر بالتداوي وتعاطي الأسباب الشرعية، فمما جاء في الصحيح: «تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم»(5).

كل ذلك مع التوكل على الله جل وعلا، واعتقاد أن الشفاء والصحة والمرض من الله سبحانه تعالى، يصيب به من يشاء ابتلاءً واختبارًا وتمحيصًا ومغفرة ورفعة للدرجات إذا تعاملوا بهذا المنهج الصحيح.

ومن أشكال الاهتمام بالصحة والعناية بها ألا يرد المريض على مصح، لقوله ﷺ: «لا يوردن ممرض على مصح»(6).

ب – التربية على الطهارة والنظافة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم»(7).

فالمسلم نظيف في الباطن من الحسد والحقد والبغض، ونظيف اللسان من الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور والتعامل بالخداع، ونظيف في الظاهر، ومن الوسائل لذلك:

الوضوء للصلاة، والغسل من الحدث الأكبر، والتطهر من النجاسات والأوساخ، والسواك، والتأكد من صحة الماء المستعمل، والتأكيد على سنن الفطرة من الختان، وقص الشارب، وحلق شعر العانة والإبط، وتنظيف الأظفار وقصها، وتعاهد الشعر بالنظافة، واستعمال الطيب، وإزالة الروائح الكريهة ونحوها.

فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يأكل أو يشرب، يغسل يديه ثم يأكل أو يشرب(8).

ويقول ﷺ: «غسل يوم الجمعة على كل محتلم وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه ولو من طيب المرأة»(9).

وهل يوجد هذا في أي حضارة أو مذهب؟ لا يختلف عاقلان بأنه لا يوجد في أي دين أو ملة، فهل يعي أبناء الإسلام ذلك؟!

ويقول ﷺ: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»(10).

وكان عليه الصلاة والسلام ترجمة عملية لهذه الخصال والخلال، يقول أنس رضي الله عنه: «ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف النبي ﷺ ولا شممت ريحًا قط، أو عرفًا قط أطيب من ريح، أو عرف النبي ﷺ»(11).

ويلحق بباب العناية بنظافة الجسم، العناية بنظافة البيئة الخارجية، فقد حثّ النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، كما جاء في قوله: «لا يبولن أحدكم في الماء الراكد»(12).

وقوله عليه الصلاة والسلام: «اتقوا اللاعنين»، قالوا: وما اللاعنان؟ قال: «الذي يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم»(13).

والنصوص لما سبق أكثر من أن تحصر ويكفى أن يرجع المسلم إلى كتب الأحاديث في باب الطهارة.

ج – الحرص على نمو الجسم وتقويته بالرياضة المشروعة، والحركة المتوازنة، فجاء الأثر «علموا أبناءكم الرماية والسباحة وركوب الخيل» وتسابق الرسول ﷺ مع عائشة مرتين، ويقاس على هذه الرياضات أمثالها مما يخلو من المحرمات كخروج العورات، أو اختلاط النساء بالرجال، أو غلبتها على وظيفة الحياة الأساسية فتكون هي الهم والهدف.

ومن الخير للمسلم أن يدرك أهمية هذه الجوانب لتربية جسمه وعقله وروحه، فيقدم على الله تعالى قوي الإيمان، نيّر العقل، قوي الجسم.

وبهذا فقد وازن عليه الصلاة والسلام بين تطلعات الروح ومتطلبات الجسد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ الفرقان: 44]

(2) [ محمد: 12]

(3) [ الأعراف: 179]

(4) أخرجه الترمذي (4: 590 رقم 2380)

(5) أخرجه أبو داود (2: 392 رقم 3855)

(6) أخرجه: البخاري (5: 2177 ، رقم 5437)

(7) أخرجه الترمذي (5: 111 ، رقم 2799)

(8) أخرجه  النسائي في السنن الكبرى (1: 203 رقم 927)

(9) أخرجه البخاري(1: 1: 300 رقم 839)

(10) أخرجه مسلم (1: 65 رقم 275)

(11) متفق عليه: البخاري (3: 136 رقم 3368)، ومسلم (7: 81 رقم 6199).

(12) أخرجه مسلم (1 : 162رقم 681)

(13) أخرجه مسلم (1: 226 ، رقم 269)



بحث عن بحث