القاعدة الثانية: تحديد الهدف (1-3)

سبق الحديث عن الهدف العام من التربية ألا وهو إصلاح الإنسان، عقديًا وعباديًا واجتماعيًا، ولكن كل مرب له أهداف خاصة من تربيته للوصول إلى الهدف العام، وتنبع هذه الأهداف من وضع الإنسان وحالته وعمله ووظيفته، وتخضع أيضًا لحالة المتربي، وأساليب هذه التربية تختلف بحسب اختلاف هدف المربي، وأيًا كان هدف المربي أو المعلم فإن للإسلام توجيهاته الدقيقة في صياغة هذا الهدف، ويتضح ذلك بالأمثلة:

- فالتاجر عندما يسعى في تربية أولاده – مثلاً – على التجارة، فتجده يكرس جهده لتعليمهم طرائقها وغرس مبادئها وأصولها، وعوامل الكسب والخسارة، فضلاً عن بيان أهميتها، ولكن عندما يكون هذا التاجر مسلمًا، فلا شك أنه سيحدد هدفه من التربية التجارية أن تكون ذات صياغة إسلامية، فالهدف الواضح: هو إيجاد تاجر مسلم.

يقول الله تعالى مبيّنًا أهمية تحديد الهدف: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(1).

ومن هنا فمن أهم ما سيربي عليه هذا المربي: التعامل المالي التعامل الحلال، فالمصدر حلال، والمصرف حلال، والوسائل مشروعة، فتظهر التربية على الصدق في المعاملة، والسماحة في البيع والشراء، وعدم الغش والتدليس، وعدم التعامل بالربا، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، وكذا عدم بيع ما فيه ضرر أو خداع أو غرر، وكل هذا ونحوه مع خشية الله تعالى ورجاء بركة بيعه وشرائه ومراعاة إخوانه المسلمين في معاملاته كلها، فضلاً عن الهدف من الحصول على المال.

وفي هذه الإلماحة يظهر الفرق بين التاجر المسلم وغير المسلم، فكلاهما يتحدان في تخريج تاجر، ولكن يختلفان في نوعية هذا التاجر.

- ومثال آخر: المعلم في تربيته لتلاميذه، فلا بد له من وضوح هدفه من تعليمه، وهنا تختلف المسالك باختلاف المعلمين، والمعلم الراشد هو الذي يجعل تعليمه نافعًا لتلاميذه. ومثله المزارع، والصانع، والأب، والداعية.

ففي تربية المعلم:

لا شك أن التعليم من أعظم المهمات، وأجلّ الوظائف، وإن من أهم ما يستطيع أن يؤدي به المعلم وظيفته أن يحدد هدفه من تعليمه، ولنا أن نتصور معلِّمَيْن:

أحدهما: يصب مادته العلمية التي تعلمها وقرأها وتنتهي بعد ذلك علاقته بتلاميذه، فهذا هدفه أن يصب المادة العلمية وقد أدّاها بغض النظر عن استيعابهم وتأثرهم بهذه المادة، وظهورها على سلوكهم، بل ولا تصورها في واقع حياتهم.

وآخر قبل أن يبدأ بمادته العلمية يتعرف على نوعية طلابه، ومداركهم، واستعدادهم، وبعد دخوله في شرح هذه المادة يمزجها بما تحمله هذه المادة من تقويم للسلوك والأخلاق، مع معالجة ما في واقع التلاميذ من أخطاء، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح من المفاهيم، وكيفية الاستفادة من هذه المادة، وبعد شرحها يتأكد من استيعابهم واستفادتهم، وهكذا، فهذه القاعدة وضعت أمامه الهدف الكبير، وهو إصلاح هؤلاء التلاميذ مع تعليمهم فمزج بين التربية والتعليم.

تصوّر – أخي القارئ – مردود هذين المعلِّمَيْن على الأبناء ومن ثم على المجتمع.

من هنا نقول: إن المعلّم الواعي لمسؤوليته، المعظم لأمانته، الذي يريد الثمار واضحة في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة، هو الذي يحدد هدفه – كما هو واضح في حالة المعلّم الثاني، فيصوغ أسلوب تعليمه ومعايشته لطلابه في ما يقتضيه هذا الهدف.

المثال الثالث: الأب مع أبنائه، الأبوة سنّة كونية، كلٌّ يحنو إليها، ويسعى لطلبها والبحث عنها، ولكن هذه الأبوة تحمل في جنباتها حقوقًا عظيمة على هذا الأب، ولأداء هذه الحقوق، ونيل ثمراتها أن يعي الأب هدفه العظيم من وجود هؤلاء الأبناء والبنات، فإذا حدّد هدفه منهم وهو إصلاحهم وتخريجهم أبناء نافعين لأنفسهم ووالديهم ومجتمعهم وأمتهم، محققين عبودية الله تعالى في الأرض: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، كانوا حينئذٍ امتدادًا له حتى بعد مماته، وحسنة جارية له وهو في قبره، فضلاً عن نفعه في حياته. أما إذا كان الآخر همه وهدفه أكلهم وشربهم ولبسهم وشؤون دنياهم فهذا قصر هدفه ونظر إلى العاجل قبل الآجل، فربما كانوا فتنة له في حياته وبعد مماته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الملك: 22]

(2) [الذاريات: 56]



بحث عن بحث