القاعدة الأولى: وضوح الهدف (1-2)

مدخـل:

لكل عمل يسعى له الإنسان هدف وغاية يرجو تحقيقها، حتى الحيوان الذي يرعى في البراري، يجوبها ويمشي في سهولها وأوديتها، والطير الذي يسبح في الهواء، والنملة التي تدب على الأرض، الكل يسعى لتحقيق هدف يأمل الوصول إليه، فهؤلاء المذكورون يسعون لتحقيق رزقهم، قال عليه الصلاة والسلام عن الطير: «تغدو خماصًا - أي جياعًا - وتروح بطانًا - أي شبعانة»(1)، فسعيها طول النهار لجلب رزقها ورزق فراخها.

والناس في هذه الحياة تعددت مساعيهم، وأعمالهم، وتعددت أهدافهم وغاياتهم التي يسعون لتحقيقها.

فمنهم من جعل غايته وهدفه جلب المال والرزق، لا يكتفي بالقليل منه، بل يريد المزيد والمكاثرة والمباهاة.

وآخرون جعلوا غايتهم الوصول إلى منصب مرموق في هذه الحياة، أو شهرة، أيًّا كانت نوعية هذه الشهرة عن طريق سليم أو غير سليم.

ومنهم من جعلوا غايتهم الحصول على متع الحياة الدنيا بأشكالها وأنماطها، وكما ينطبق هذا الأمر على الأفراد فهو ينطبق على الأمم والدول والمجتمعات.

والله سبحانه وتعالى جعل الغاية من خلق الجن والإنس محددة معلومة، واضحة بينة، ولم يكتف بذلك فأرسل الرسل لبيانها للناس، وأنزل الكتب لتوضيحها وتبسيطها.

هذه الغاية هي: عبادة الله في أرض الله استجابة لأمره جلَّ وعلا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(3).

هذه الغاية: سعى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّقها ودعا إليها، وجاهد في سبيلها، فصاغ حياته كلها للوصول إليها، جاء في خطبته عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:  "اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت". وأنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(4).

فالغاية واضحة، ويجب أن تكون كذلك لكل مسلم، حتى يسعى في الدنيا على وضوح، فيعبد الله على بصيرة، ويسير إليه على طريق بيّن المعالم، واضح السبل، فلا تحيد به المراكب يمنة ولا يسرة، قال الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(5).     

وبهذا فإن هدف التربية النبوية هو إصلاح الإنسان إصلاحًا شاملاً وكاملاً ومتوازنًا، ومن أهم ما يرجى إصلاحه:

أولاً: إصلاح عقيدته: فيغرس في النفس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(6).

وفي حديث جبريل عليه السلام المشهور حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره»(7).

والإيمان بالله:

- أن يوحّد العبدُ ربّه بأفعاله سبحانه بأنه المالك الخالق المتصرف الرزاق ذو القوة المتين.

- ويوحّد الله بأفعاله هو أيضًا، فلا يصلي ولا يصوم إلا لله، ولا يدعو ولا يتوسل ولا يستغيث ولا يقوم بأي نوع من العبادة إلا لله سبحانه.

- ويوحّد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فيؤمن بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا يشبهه بخلقه، ولا يعطِّله عن أسمائه وصفاته.

- ويؤمن بملائكة الله الذين خلقهم الله تعالى، يسبّحونه ولا يفترون، ويعبدونه ولا يملّون، منهم من سمّاه الله لنا كجبريل وميكائيل، ومنهم من أجملهم وبيّن وظائفهم.

- ويؤمن بكتب الله المنزلة على رسله، وأن آخرها وناسخها القرآن الكريم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

- ويؤمن برسل الله الذين أرسلهم الله للناس، يبشرونهم وينذرونهم ويدلّونهم على عبادة الله، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته ناسخة لكل الرسالات، ولا نبي بعده.

- ويؤمن باليوم الآخر وما فيه من أحوال وأهوال ابتداء بأشراط الساعة، وموت الإنسان وابتلائه في قبره ثم الحشر والنشر والعرض والحساب والجزاء، وعبور الصراط ودخول الجنة أو النار.

- ويؤمن بالقدر خيره وشره، فيعلم أن كل أمر يحصل في هذا الكون كله ما هو إلا بتقدير الله سبحانه: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(8)، ومنه أن يؤمن بأن الله أعطاه قدرة على تمييز الخير من الشر، وابتلاه بذلك.

وهكذا، فمن أهداف التربية إصلاح هذه العقيدة بالإيمان بها قلبيًا، وعمليًا بإظهار آثارها في واقع الإنسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه الترمذي (4: 573 ، رقم 2344)

(2) [الذاريات: 56]

(3) [النحل: 36]

(4) [المائدة: 3]

(5) [يوسف: 108]

(6) [البقرة: 285]

(7) أخرجه البخاري(4: 1741 رقم 4431)، ومسلم(1: 28 رقم 102).

(8) [التوبة: 51]



بحث عن بحث