ثالثًا: الكبر (1-2)

والكبر كما عرّفه النبي ﷺ: «بطرق الحق، وغمط الناس«(1).

وغمط الناس هو الازدراء بهم واستحقارهم واستصغارهم، ويظهر له آثار على هيئة الإنسان وتعامله مع الناس، من عدم الخضوع إلى الحق والتنازل عن الخطأ والرجوع عن الباطل، والنظر إلى الآخرين نظرة دونية، ولعل أشد أنواع الكبر هو التعالي على شرع الله تعالى وأحكامه، وعدم التحاكم إليه في التنازع والخلافات، لأنه حينها يهدد عقيدته ويخشى عليه من الكفر، لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(2).

ومصدر الكبر من الشيطان حين يتمكّن من النفس وينفث الخبث فيها عبر إيحاءاته للإنسان أن ما عنده ليس عند الآخرين، وأنه يتميز عليهم بكذا وكذا، وأنه يملك المال وغيره فقراء، وأنه القوي وغيره ضعفاء، وأنه العالم وغيره جهلاء، وهكذا، وكلها مداخل خطيرة في النفس يترقبها الشيطان في الإنسان ويتحيّن الفرص للولوج فيها عبر هذه الأبواب التي تعدّ نقاط ضعف عند كثير من الناس. ومن أهم هذه المداخل الشيطانية:

الغني والمال: إن الثروة والمال من الأسباب التي تعمي الكثيرين من رؤية الحق واتباعه، وتجعلهم يتعالون ويتكبرون على إخوانهم الذين حُرموا نعمة المال، فلا يشعر بمعاناتهم وحاجاتهم، وإنما إنه ينظر إليهم بازدراء واحتقار لأنهم فقراء ومحتاجون،  وليس هذا فحسب، بل إنه يرجع الفضل في امتلاكه لهذه الأموال والثروات إلى نفسه وعلمه وذكائه، كما ادّعى من قبلهم قارون حين قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}(3).

والغنى من المداخل الواسعة التي يدخل منها الشيطان إلى النفس ويوسوس لها ويضرب عليها ستارًا من العمى حتى لا تبصر غير ذاتها وتصرف النظر عمن سواها من الناس، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المدخل الشيطاني وضياع الناس فيه إلا من رحم الله، فقال جل شأنه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ . أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ}(4).

القبيلة والنسب: ومن الناس من يتكبر على الناس لأنه ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك، ويتعالى على خَلق الله تعالى بأنه من عرق يختلف عن أعراقهم، ومن نسب أفضل من أنسابهم، ويبعد به التصور إلى أن يفضل نفسه وقبيلته على الآخرين بما فيها من المفاسد العظيمة والمعاصي والمنكرات، وكأنه يردد قول الشاعر الجاهلي:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وأن ترشد غزية أرشد

بل ربما ظن البعض أن النسب والقبيلة قد تغنياه في الآخرة وتنجياه من العذاب.

الجمال: ومنهم من يتكبر ويصيبه الغرور إذا أعطاه الله شيئًا من حُسْن وجمال، فيرى نفسه فوق الجميع لأنه يملك ما لا يملكون، ويتميز بطول فارع وشعر جميل ووجه حَسن وصوت عذب وغيرها من الصفات الخَلقية الحسنة، التي قد يفتقدها بعض الناس، وينسى شكر هذه النعمة في خضم الغرور والتكبر الذي يبثه الشيطان في نفسه، بل يمضي في غيّه حتى يظهر ازدراءه لما عليه الناس من صور وأشكال وألوان وصفات، ويظن أن ما عنده هو من كسب يده وعلمه.

- الوظيفة والمنصب: والتي صار لها شأن كبير في هذا العصر، حيث يتباهى الناس ويفتخرون حين يصلون إلى منصب رفيع، ويستلمون زمام وزارة أو وكالتها، أو رئاسة جامعة أو إدارة شركة أو يصبح مسؤولاً كبيرًا في الحكومة وغير ذلك من الوظائف العليا التي يطمح إليها الناس، حتى تصيب بعض هؤلاء العزلة عن الناس والبعد عن مشكلاتهم وحوائجهم، بل الاستعلاء عليهم، لأنه صار ذو مكانة عالية وله علاقات على مستويات رفيعة. وهي من علامات استيلاء الشيطان على النفس وإمساكه بزمام القيادة عليها.

- قوة البدن والسلطة: كما يتكبر البعض بما أوتي من قوة في الجسم أو سطوة ومنعة في السلطة، فيتعالى على الضعفاء، ويزدري ضعفهم، بل إنه يفرض عليهم قناعاته وقوانينه، ويمنع عنهم مجادلته ونقاشه، ويظلم الناس ويعتدي على حقوقهم دون محاجة أو اعتراض، لأنه صاحب القوة والمنعة في هذا المقام.

إن هذه جميع هذه الصفات والمشاعر تعدّ نقاط ضعف في النفس، ومن خلالها يدخلها الشيطان ويسيطر عليها، ولا يتركها على حالها، وإنما ينفث فيها من خبثه حتى تضطرب من جميع الجوانب، ويصيبها الاكتئاب والقلق والحزن، بل قد يجتمع فيها المتناقضات المختلفة التي تؤدي في النهاية إلى مرض نفسي يفقد صاحبه بعد ذلك السيطرة على المواقف والقرارات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه مسلم (ص54، رقم 265) كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه.

(2) [النساء: 65]

(3) [القصص: 78]

(4) [العلق: 6-7]



بحث عن بحث