الإرادة وأنواعها

ظن كثير من الناس أن إرادة الله تعالى للأشياء تقتضي محبته لها وبذلك فإن كل أعمال الخير داخلة في هذه الإرادة، وأن أعمال الشر التي لا يحبها الله تعالى تكون خارجة عن هذه الإرادة، وهذا تفسير خطير يهزّ قواعد العقيدة الصحيحة، لأن هذا التصور يخرج كثيرًا من الأشياء والأفعال خارج إرادته جلّ وعلا، الأمر يناقض صفة المشيئة له وكذلك يؤدي إلى الظن بوجود إرادات أخرى في هذا الكون الذي هو من صنع الله وحده وتحت مشيئته وقدرته، ولذا لا بد من بيان حقيقة الإرادة وأنواعها لإزالة هذا الغبش العقدي في أذهان الناس وبيان  العقيدة الصافية لهم.

فقد بيّن كتاب الله تعالى وسنة نبيّه ﷺ نوعين من الإرادة، الكونية والشرعية:

أولاً: الإرادة الكونية:

فهي إرادة عامة تشمل كل شيء، في هذا الكون سواء كان مما يحبّه الله تعالى أو مما لا يحبه، كالخير والشر، والطاعة والمعصية، والفقر والغنى، والصحة والعافية وغيرها، فكل هذه الأشياء داخلة في الإرادة الكونية التي أراد الله تعالى أن تكون قدرًا واقعًا حتمًا، يقول الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(1).

ويقول تبارك وتعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}(2).

ويقول جل شأنه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(3).

وغيرها من الآيات التي تدل على أن هناك إرادة كونية كبرى تقود المخلوقات والموجودات ولا يخرج عنها شيء أبدًا مهما كان نوع هذا الشيء سواء كان مما أمر الله به أم مما لم يأمر به، كالطاعة والمعصية وغيرها.

ثانيًا: الإرادة الشرعية أو الدينية:

وهي ما أراده الله تعالى لعباده من أحكام وتشريع أنزله في كتابه وسنة نبيه ﷺ، من أمر ونهي، وهي مختصة بالأمور التي يحبها الله تعالى، فالله يأمر عباده أن يكون مؤمنين قائمين بفرائضه وأحكامه وهذا أمر محبوب إليه جلّ وعلا، ولكن كثير من الناس لا يستجيبون لهذا الأمر فيعصونه ويعرضون عنه، وهذه هي الإرادة الشرعية، كما في قوله جلّ وعلا حين يأمر عباده بالخير والطاعات وينهاهم عن طرق الغواية والشر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(4).

ولا تقتضي هذه الإرادة حصول الشيء ووقوعه، وإلا فإن الناس جميعًا كانوا مسلمين ولم يكن هناك غيرهم من الملل والنحل الكافرة والمشركة والمنحرفة، وبالتالي ما كانت هناك إلا الجنة وحدها دون النار والحساب.

ووجود هذه الإرادة ضرورة شرعية لحدوث التنافس والتسارع في تقديم الطاعات والأعمال الصالحة بين الناس، يقول تبارك وتعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ}(5).

وبالتالي يمكن بيان بعض الأمور المهمة التي تفصل هاتين الإرادتين عن بعضهما:

1-الإرادة الكونية لا بد من وقوعها، أما الشرعية فلا يجب وقوعها.

2-الإرادة الكونية تتعلق بما يحبه الله تعالى وبما لا يحبه، كالطاعة والمعصية، أما الشرعية فتكون حصرًا مما يحبه الله جل وعلا.

3-الإرادة الكونية تتعلق بربوبية الله تعالى، والإرادة الشرعية تتعلق بألوهيته جل وعلا وشريعته.

وفي الحالتين تكون إرادة الله تعالى لحكمة لا يعلمها إلا هو، تنصب في آخر المطاف لصالح العباد، يقول تبارك وتعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(6).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الأنعام: 125]

(2) [النساء: 78]

(3) [البقرة: 253]

(4) [النحل: 90]

(5) [الليل: 5-10]

(6) [المائدة: 50]



بحث عن بحث