مناقضات الصبر

ليس كل إنسان يصبر على البلاء، وليس كل إنسان لديه قوة الصبر نفسها، فبعضهم يجزع والآخر يصبر ولكن لا يثبت كثيرًا، والبعض الآخر يصبر ويصابر حتى النهاية، كلٌّ حسب درجة إيمانه وإرادته، وحسب نوع البلاء لديه، وقد ذم الله تعالى أولئك القوم الذين لا يملكون أدنى مستويات الإرادة فيجزعون لكل مصيبة أو بلاء، ويريدون أن يعيشوا أبد العمر مرفهين ومنعمين من غير أن يصيبهم ما يعكر صفو سعادتهم ورفاهيتهم، وهذه ليست من سنة الحياة، وقد ذمّ الله تعالى هذا الصنف من البشر بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).

وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}(2).

ومن المفيد الإشارة إلى بعض أنوا الجزع التي تناقض حقيقة الصبر وتخالفها، ومنها:

1-الشكوى لغير الله والإكثار من التأفف من الحال والبلاء، والسب والشتم للمصيبة، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: «ما لكِ يا أم السائب، أو يا أم المسيب تزفزفين؟ قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمّى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد«(3).

وقال علي رضي الله عنه: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك(4).

وهناك فرق بين الشكوى من المرض والإخبار عن المرض، فقد قال النبي ﷺ في وجعه: «وارأساه»(5)، وقول سعد: يا رسول الله قد اشتد بي الوجع وأنا ذو مال، وقول عائشة: وارأساه.

2-التشاؤم واليأس من رحمة الله تعالى، والركون إلى وساوس الشيطان وما يمليه عليه من همزاته ونزغاته، لقول الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(6).

عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط« (7).

3-النياحة ورفع الصوت وشق الجيوب ولطم الوجه وحلق الشعر، وأما أشبهها من أفعال الساخطين، لقول الرسول ﷺ: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية«(8).

وأما البكاء فإنه جائز، لأنه رحمة، ما لم يكن سخطًا أو جزعًا، فعن أنس رضي الله عنه قال: دخلنا على أبي سيف القَيْن، وكان ظئرًا لإبراهيم، فأخذه رسول الله ﷺ فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف، وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف: إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال ﷺ: «إن العين لتدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون«(9).

ومن مناقضات الصبر أيضًا استمرار الحزن، والذهاب إلى المشعوذين والسحرة، والتداوي بالمحرم، والتكاسل عن الطاعات والواجبات.

*     *     *

وأخيرًا:

فإن خُلق الصبر الذي أمر الله تعالى التحلي به هو زاد المؤمن في هذه الحياة، في سرّائه وضرّائه، وفي شؤونه الدينية والدنيوية، فهو السلاح الذي يقهر كيد الشيطان فيجعله ضعيفًا، ويمنعه من نفثه وخبثه، ويجعل النفس هادئة مطمئنة وراضية لأمر الله تعالى، وكذلك فإن الصبر هو الزاد الذي يتقوى به المريض على مرضه، كما تقوّى به نبي الله أيوب عليه السلام إلى أن أزاح الله عنه المرض، وهو مفتاح الفرج ومجلي الكربات، فبالصبر وحده تمكّن نبي الله يوسف عليه السلام أن يتحمل ظلم الإخوة وظلمة الجب، وإغراء الشهوة، وغربة السجن، إلى أن قلّده الله وسام الصبر فجعله أمينًا على خزائن مصر، كما أن الصبر هو الخُلق الذي تحلى به رسول الله ﷺ وصحابته الكرام حين أوذوا في سبيل الله وأُخرجوا من ديارهم بغير حق، فجزاهم الله في الدنيا نصرًا وتمكينًا، وفي الآخرة جنة ونعيمًا.

وهذا شأن المؤمن مع خُلق الصبر في كل أحواله وشؤونه، في حلّه وترحاله، في سرّائه وضرائه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الحج: 11]

(2) [المعارج: 19-21]

(3) أخرجه مسلم (ص1128، رقم 2575) كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض.

(4) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص349.

(5) أخرجه البخاري (ص1243، رقم 7217) كتاب الأحكام، باب الاستخلاف.

(6) [ يوسف: 87]

(7) سبق تخريجه.

(8) أخرجه البخاري (ص207، رقم 1297) كتاب الجنائز، باب رثاء النبي ﷺ.

(9) أخرجه البخاري (ص108، رقم 1303) كتاب الجنائز، باب إنا بك يا إبراهيم لمحزونون. ومسلم (ص1023، رقم 2315) كتاب الفضائل، باب رحمة الصبيان والعيال.



بحث عن بحث