الحلقة (55): جمع النصوص المتعلقة بموضوع واحد(2-3)

ومن الأمثلة على النصوص المتعلقة بموضوع واحد: ما ورد في «موضوع المزارعة» في كتب الحديث، حيث ورد في هذا الموضوع عدة أنواع من الأحاديث يكمل بعضها الآخر. فقد روى البخاري عن أبي أمامة الباهلي أنه قال ـ حين نظر إلى آلة حرث ـ سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل»(1).

ووردت أحاديث أخرى كثيرة تحث على الزراعة، منها:

ما رواه البخاري وغيره عن رسول الله ﷺ:«ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»(2).ومنها: ما رواه مسلم عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ:«ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة»(3)وغير ذلك من الأحاديث التي تحث على الزراعة.

والمعنى الظاهر للحديث الأول يفيد كراهية الرسول ﷺ للحرث والزراعة التي تفضي إلى ذل العاملين فيها، وهذا المعنى الظاهر غير مراد لمعارضته للنصوص الصحيحة الصريحة الأخرى التي تفيد أن الإسلام لا يذم الزراعة وإنما يحث عليها ويرغب فيها، وأن المسلم الزارع أو الغارس مثاب مأجور عند الله له ثواب الصدقة على ما يؤخذ من ثمرة غرسه، ولو لم يكن له فيه نية، مثل ما يأكله الحيوان والطير، وما يسرق منه السارق، وهي صدقة باقية دائمة غير منقطعة ما دام هناك كائن حي ينتفع بهذا الغرس أو الزرع، وهذا ما جعل بعض العلماء قديمًا يقولون: إن الزراعة هي أفضل المكاسب.

وفي تأويل حديث أبي أمامة بعد أن ضُمَّ مع بقية الأحاديث في ذات الموضوع يقول الحافظ ابن حجر: (وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة والحديث الماضي في فضل الزرع والغرس، وذلك بأحد أمرين: «إما أن يجعل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك، ومحله ما إذا اشتغل به فضيّع بسببه ما أُمر بحفظه، وإما أن يُحمل على ما إذا لم يضيّع إلا أنه جاوز الحد فيه».وبعض الشراح قال: «هذا لمن يقرب من العدو، فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية، فيتأسد عليه العدو، فحقهم أن يشتغلوا بالفروسية وعلى غيرهم إمدادهم بما يحتاجون إليه».

كما أننا إذا نظرنا إلى الحديث الذي رُوي عن ابن عمر مرفوعًا:«إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه، حتى ترجعوا إلى دينكم»(4)فإننا نجد أن هذا الحديث ألقى إرشادًا للمراد من حديث أبي أمامة، وتبين أن المقصود به الإخلاد إلى الزراعة والدنيا والشؤون الخاصة، وإهمال الواجبات ومنها الجهاد، وكشف لنا عن أسباب الذل الذي يسلط على الأمة جزاءً وفاقا لتفريطها في أمر دينها، بتحايلها على أكل الربا بصور من التعامل ظاهرها الحل وباطنها الحرام المؤكد، وإهمالها ما يجب عليها رعايته من أمر دنياها.

وهكذا نرى أنه بمجموع الروايات يتبين مراد الحديث، واتضح لنا أن الاكتفاء بظاهر حديث واحد ـ دون النظر في بقية الأحاديث وسائر النصوص المتعلقة بموضوعه ـ كثيرًا ما يوقع في الخطأ ويبعد الناظر فيه عن جادة الصواب، وعن المقصود الذي سبق له الحديث.

وللموضوع بقية نتناولها في الحلقة القادمة بمشيئة الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)(صحيح البخاري [2321]).

(2) (صحيح البخاري[2320]).

(3) (صحيح مسلم[1552]).

(4) (سنن أبي داود[ 3462]).



بحث عن بحث