المنهج الأمثل في دراسة الإرهاصات2

 

ثالثها : إذا ثبت وقوع الأعاجيب ــ المعجزة والحوادث الكونية الخارقة ــ لمعروف العقول في سنن الحياة العامة ، فالنظر فيما يروى منها جملة في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته أو في زمنها يجري على سنن تلك الآيات وقوانينها ، ويبقى على الباحث النظر في إثبات أفراد تلك الحوادث والجزئيات التي سجلتها السيرة النبوية ، فما ثبت منها بطريق صحيح السند ، صادق الرواية ، وجب قبوله والإذعان بوقوعه ، لأن رده أو التشكك فيه بعد ثبوته بهذه الطريقة التي لا طريق للإثبات التاريخي فوقها رد لبرهان العقل القاطع ، ورد لنص القرآن في إثبات الآيات المعجزة ، ولا فرق بين آية وآية ، ورد البرهان العقلي والنص القرآني إلحاد في دين الله ، أو جهل بسنن الحياة ، أو تشكيك في قدرة الله .

وما لم يثبت منها هذا الثبوت فنحن في حل من إنكار وقوعه أو التوقف في الحكم عليه إثباتا أو نفيا ، والتوقف أسلم وأحكم ــ كما يقول علماؤنا ــ لأنه محتمل الثبوت ، وقد قامت الدلائل في العلم التجريبي ، وفي وسائل البحث التاريخي على أن كثيرا مما كان ينكر من الحقائق العلمية والحوادث التاريخية أصبح ثابتا مقررا في بدائه العقول ، وكثيرا ما كان يزعم حقائق علمية ومقررات تاريخية صار في مهب الأساطير والخرافات ، فالتسرع في الإنكار خطل في الرأي ، والتسرع في التصديق قبل الإثبات غميزة في العقل(1) .

وعلى هذا الهدي نسير في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ، فنعرض لما يروى في السيرة العطرة من هذه الأعاجيب الكونية المعجزة ، نحاكمه إلى صحة السند وصدق الرواية ، فإذا ثبت لهذه المحاكمة وفاز فيها بعنوان الوجود الواقعي سجلناه مؤمنين مذعنين ، وإذا لم يثبت وطاحت به الرواية أو خانه السند الصحيح طرحناه حيث ينتهي غير آسفين .

المرتبة الأولى في الإثبات : وأعلى ذلك عندنا وأرفعه في منازل القبول والصدق القاطع ما يذكره القرآن الكريم في صراحة ظاهرة ، أو يشير إليه إشارة لماحة ، وبين المرتبتين من الفرق ما بين الأسلوبين في التعبير ، فلا يجوز التلبث في قبول المرتبة الأولى والإيمان بها ، ولا يقبل أن يمشي التأويل إلى ساحتها ، تشبثا من المتأولين بمعروف العقول ، وقضايا العلم ، وقوانين المنطق ، ومألوف سنن الحياة ، لأن معروف العقول ،وقضايا العلم ، وقوانين المنطق ، ومألوف سنن الحياة مخلوقة لله تعالى فهي محكومة بواسع قدرته ، ومطلق سلطانه في تصريف خلقه ، فلا يسوغ في معروف العقول السليمة ، وقضايا العلم الصحيح ، وقوانين المنطق المستقيم أن تجعل حاكمة عل خالقها ، وإلا كانت الألوهية ضربا من الوثنية التي يصطنعها الناس بعقولهم وعواطفهم وأخيلتهم .

والمسألة هنا ليست مسألة عقل يحكم أو منطق يقيس ويبرم ثم ينتهي كل شيء ، وإنما هي مسألة عقل يبحث في أصل الإيجاد والإبداع ، فإذا استقام له أن يقيم هذا الأصل على دعائم ثابتة جاءت الحوادث الجزئية بطبيعتها خاضعة لناموس الإيجاد والإبداع العام فقط دون أي ناموس آخر يحكمها في وجودها الجزئي .

أما المرتبة الثانية : وهي الأعاجيب التي يشير إليها القرآن ولا يذكرها صراحة فإن تأيدت بروايات صحيحة السند من السنة النبوية كان حظها في الإيمان بها وقبولها مثل حظ سابقتها ، لكن لا على أنها هي التفسير للنص القرآني قطعا كما في المرتبة السابقة ، بل على أنها وجه لتخريج النص وفهمه مع قيام صحة غيره من الوجوه المحتملة إذا استقام لها الدليل ، وإن لم نجد لها عضدا قويا من الرواية الصحيحة قبلنا ما يذكر فيها من تأويل قويم على أنه معنى راجح في الدلالة على استنباط ما تشير إليه من حادث كوني معجز دون أن ينفي صحة أن يكون هذا الحادث الكوني المشار إليه معنى من معاني النص المحتملة .

ودون ذلك مراتب : أعلاها ما يروى في المصادر المعتبرة عند ذوي العلم بسند صحيح وطرق متعددة ، وأدناها ما ينفرد بروايته مصدر ضعيف أو راو لا يتحرز .

أما الآثار والأحاديث والموضوعات والأباطيل التي ينص الأئمة على وضعها واختلاقها فلا تصلح أن تكون في مراتب الاعتداد والحسبان (2) .

والأمثلة على ما ذكرناه من المراتب كثيرة في السيرة النبوية ، ولا تعوز الباحث ، فهو يجدها أنى طلبها ، وسوف نقف ــ بإذن الله تعالى ــ على أمثلة لها في هذه الدراسة المباركة .


  (1)  ــ محمد رسول الله ( 1 / 105 ــ 108 ) باختصار وتصرف .

(2)  ــ محمد رسول الله ( 1 / 109 ــ 111 ).

 



بحث عن بحث