التمكين لمحبة صحابته صلى الله عليه وسلم في قلب المسلم والسعادة بصحبتهم والتأسي بحياتهم

 

 

فالسيرة تكسب المسلم أيضا محبة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب محبته صلى الله عليه وسلم ، ومحبتهم مطلوبة لذاتها ، فقد أثنى الله عليهم مهاجرين وأنصاراً في كتابه الكريم ، فقال عز من قائل ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) [ سورة التوبة / 100 ] ، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجوب محبتهم فقال : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ،ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " (1).

 

وسيجد المسلم في صحبتهم ، رضي الله عنهم ، حافزا على العمل ، وهو يقرأ صنيعهم وكيف كانوا يتخطون العقبات، سواء ما قام منها في نفوسهم أو ما يلقونه من أعدائهم .

 

إن الفاضل منا اليوم ليعجب بنفسه وعبادته ويتحدث عن قيامه بالليل الساعة والساعتين ، فهل قرأ عن قيام عباد بن بشر ، رضي الله عنه ، في غزوة ذات الرقاع ؟ ويتحدث أحيانا عن الصدقة والصدقتين ، فهل قرأ عن صدقات أبي بكر وعثمان وأبي الدحداح رضي الله عنهم جميعاً ؟ ويتحدث عن جهاده في سبيل الله واحتسابه الولد أو الأخ ،فهل قرأ عن احتساب المرأة الدينارية أولادها وزوجها ؟ وهل قرأ ما فعل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، بخاله يوم بدر ؟ وكيف احتسب حذيفة أباه اليمان ، رضي الله عنهما ، في أحد ؟ ويتحدث عن زهده وخدمته الإسلام ، فهل قرأ كيف أغلق الصحابة الكرام أبواب الدنيا ، واستحالت حياتهم جهاداً في سبيل الله ؛ غزواً في النهار ، وعبادة بالليل ؟ وكانوا مثلما وصفهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : " أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة " (2).

 

ومن هنا كان الحديث الشريف : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم .. ) بيانا للواقع ، فهو ذروة الخط البياني في تاريخ البشرية كلها ...

أما بالنسبة للأجيال بعده فذلك بنص الحديث الشريف ( ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ، وأما بالنسبة للأجيال السابقة فذلك ما دونه القرآن الكريم وهو يتحدث عن أقوام الرسل السابقين .

فقد قال قوم موسى لموسى : ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) [ سورة المائدة / 24 ] ، وقال الصحابة لرسولهم الكريم : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون )([3]) ، ولم يقولوا كما قال الحواريون : ( يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) [ سورة المائدة / 112 ] ، فقد كانوا أكثر أدبا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن أدبهم أمامه سبحانه  وتعالى .

 

أليس من سعادة المرء النفسية والفكرية والإيمانية أن يعيش مع هذا الجيل بفكره يتخيله وقد كان واقعا في الحياة في يوم مضى .. فيعرف له فضله ، ويعرف له حقه ... ويتعلم كيف يكون الإيمان وكيف يكون الحب ، وكيف تكون الطاعة ... ؟ .

 

حقا إن المسافة شاسعة بيننا وبين أولئك الصحابة الذين ضحوا بكل شيء من أجل الله ورسوله ، بينما وقفنا نحن عند حدود القراءة لأخبار تلك التضحيات الجليلة ، فلئن كان حظنا القراءة وحظهم التضحيات لقد باينونا بونا عظيما .

 

إن المسلم ليسعد بصحبة الصحابة الكرام في السيرة ، يرى فيهم نماذج إنسانية ممتازة لم يعرف مثلها التاريخ تحليقا روحانيا ، ولا ارتفاعا على شهوات الأرض ، وانتصارا على النفس، وقوة ذكاء ،وسرعة بديهة ،وسمو أدب ... كل واحد منهم قصة مع الله تهز الضمير وتوقظ القلب ، لقد تفاعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلوا نسمات الهدى ،وأغلقوا أبواب الماضي ،وتفتحوا للحياة الجديدة بملء القلوب ، لا يختزنون من مواهبهم شيئا ،ولا يحتجزون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد أن أكرمهم الله بصحبته عليه الصلاة والسلام... كانوا يستشعرون نعمة الله عليهم ليلهم ونهارهم ، لا يغيب عنهم ذلك الشعور ، كان دائما في أعماقهم حياً يقظا يحرم عليهم النوم ويقض عليهم مضاجع الراحة ، ويجعلهم في توتر مستمر لا ينسون فيه الإسلام ولا يستطيعون أن يغفلوا عن معركته لحظة ، هم في المعركة دائما مع النبي صلى الله عليه وسلم يشاركونه وهج الكفاح ويحملون معه هموم الإسلام .

 

هنالك لا يجد المسلم مناصا من أن يقارن نفسه بهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم ،فتصغر في عينه نفسه ، ويدرك أنه ليس من أهل الحب ولا التضحية ولا الفداء .. وأنه مقصر جداً في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيراجع نفسه وأوراقه ويسعى إلى حياة جديدة فيها الحب الحقيقي لله والانتماء الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

وإن المسلم لتأخذه الدهشة من صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف استطاع  صلى الله عليه وسلم أن يحول هؤلاء الذين كانوا حفاة عراة متخلفين تجاوزتهم حضارة الفرس والرومان فيجعلهم بتربيته الربانية أقطاب الأرض ، وجهابذة الدنيا وأساتذة العالم وأطباء الإنسانية ومنقذي الغرقى من البشر .

 

هنالك تزداد ثقة المسلم بمدرسة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يرضي عنها بديلاً، ويراجع أسلوب تربيته الخاص وتربية أبنائه موقنا أن الإسلام لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا أمر به وأرشد إليه(4).

 


 


(1) - سنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب في من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم /ح 3862، وقال : هذا حديث حسن غريب .

(2) - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء / الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : ( ج 1/ 136 ) .

(3) - كان ذلك قول المقداد بن عمرو في يوم بدر .

(4) - مختصر الجامع في السيرة النبوية ص 19-20.

 

 

 

 



بحث عن بحث