وخز الضمير

وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة ، وقوة نفس ومحاسبتها ، والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون – تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة ووخزا لاذعا للضمير وخيالا مروعا ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئنا مرتاحا ، تفاديا من سخط الله وعقوبة الآخرة.

وقد حدثنا المؤرخون الثقات في ذلك بطرائف لم يحدث نظيرها إلا في التاريخ الإسلامي الديني .

روى مسلم بسنده عن عبدالله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله  إني ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني ، فرده ، فلما كان من الغد أتاه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال :" أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا "؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه ، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم .

قال فجاءت الغامدية فقالت : ( يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، قال :" إما لا فاذهبي حتى تلدي" ، قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته ، قال : "فاذهبي فأرضعيه حتى تطعميه" ، فلما فطمته أتته بالصبي ، في يده كسرة خبز ،فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها فقال : " مهلاً يا خالد ، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت (1).

 

الثبات أمام المطامع والشهوات:

وكان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه من النزوع أمام المطامع والشهوات الجارفة ، وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراها أحد ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا ، وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان.

حدث الطبري قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله عندنا ولا يقاربه ، فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني ، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه ، فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس (2).

 

الأنفة وكبر النفس:

وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم عاليا وأقام صفحة عنقهم فلن تحنى لغير الله أبداً، لا لملك جبار ولا لحبر من الأحبار ولا لرئيس ديني ولا دنيوي ،وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته ، فهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة؛ فإذا نظروا إلى الملوك وحشمتهم وما هم فيه من ترف ونعيم وزينة وزخرف، فكأنهم ينظرون إلى صور ودمى قد كسيت ملابس الإنسان .

عن أبي موسى قال : انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره ، والقسيسون جلوس سماطين ، وقد قال له عمرو وعمارة : إنهم لا يسجدون لك ، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان : اسجدوا للملك . فقال جعفر : لا نسجد إلا لله (3).

وأرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد ، وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه ، فقالوا له : ضع سلاحك ،فقال : إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق عامتها ، فقال له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام (4).

 


(1) - صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنا ، رقم ( 4432 ) .

(2) - تاريخ الطبري : 4/16.

(3) - أخرجه الحاكم في المستدرك ( 309-310 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبيهقي في دلائل النبوة ( 2/299-300 ) وقال : إسناده صحيح .

(4) - حياة الصحابة للكاند هلوي ( 1/203 ) .

 

 



بحث عن بحث