التعرف على الجهد المبذول في إزاحة الجاهلية 

 إنه مما يعرفنا – إضافة لما سبق – بقدر هذا الرسول الكريم أن نتعرف على ذلك الجهد العظيم الذي بذله -صلى الله عليه وسلم- في إزاحة الجاهلية.

 وإزاحة الجاهلية ليست أمراً سهلاً، وهذا الإزاحة متعددة المواقع:

 فهناك الإزاحة في ميدان العقيدة .

 وهناك الإزاحة في ميدان الفكر .

 وهناك الإزاحة العسكرية.

 وهناك الإزاحة الاجتماعية.

 واختار المثال لهذه الفقرة من النوع الأخير ...

 جاء الإسلام والناس طبقات، بل والطبقة الواحدة درجات، وكان من القواعد الأولى في هذا الدين : المساواة بين الناس، وإلغاء هذا التمايز الذي لا يستند إلى أمر منطقي، وأصبح في ظل الإسلام مفهوم آخر للسيادة بين الناس يوضحه قول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا " -يعني بلالاً-(1)، هذه السيادة التي لا يتمسك بها من يعترف الناس له بها؛ وإنما هي اعتراف لصاحب الفضل بفضله ، وهكذا غير الإسلام المفاهيم.

 ولكن هذا التغيير احتاج إلى جهد كبير، فالمسلمون -وإن اعترفوا ظاهراً بالمساواة- إلا أن تحويل هذا الاعتراف إلى واقع لم يكن أمراً ميسوراً، فكان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يمارس عملية التطبيق بنفسه.

 ومن هذا المنطلق بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلغى عملياً الحواجز بين الناس في أمر الزواج، فكان يقترح على العربيات الأصيلات أن يتزوجن من الموالي، ومن ذلك أن خطب -صلى الله عليه وسلم- بنت عمته زينب بنت جحش  لمولاه زيد بن حارثة.

 وترفعت زينب لشرفها وجمالها، ونزل قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ... ) [ الأحزاب /36] وانصاعت زينب لأمر الله وتم الزواج.

 ولكن الأمور لم تستقم بين الزوجين، ورغب زيد في طلاقها، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لزيد : (أمسك عليك زوجك) ، علماً بأن الله تعالى قد أعلمه بأنها ستكون زوجاً له.

 وكانت إرادة الله تعالى أن يكون زواج زينب من زيد كَسْرَاً لحاجز كبير  يتعارض مع مبادئ الإسلام ، وكانت إرادته تعالى – أيضاً – أن يكون زواج زينب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- كسراً لحاجز آخر أبطله الإسلام – وكان قائما في الجاهلية – وهو الزواج من مطلقة متبناه .

 إن هذين الأمرين الاجتماعين كان من السهل أن يأتي بهما التشريع، لكن عملية التطبيق في الواقع كانت بحاجة إلى جهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ولقد كان ذلك ثقيلا على نفس الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لذلك أخفى الخبر بإعلام الله له بالزواج من زينب، لأن زواجه من مطلقة متبناه أمر مستغرب في تلك البيئة، وكانت إرادة الله أن يكون إبطال هذا الأمر عملياً، فكان فيه ما فيه من الجهد النفسي والجهد الاجتماعي .

 إن سلطان الأعراف والتقاليد والعادات على الحياة الاجتماعية كبير، ولذا كان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يلغي منها ما يتعارض مع الإسلام إلغاءً عملياً، حتى يثبت المعنى الإسلامي الجديد مكان العرف الجاهلي الملغي.

 بل إن معرفة الجاهلية، ومعرفة الإسلام تبين لنا الجهد المبذول، والمكابدة الكبيرة التي بُذِلَتْ حتى أصبح المعنى الإسلامي هو العرف القائم(2).

 يقول العلامة أبو الحسن الندوي موضحا ذلك:

"لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه -صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء، كان غريباً في سرعته، وكان غريبا في عمقه، وكان غريبا في سعته وشموله، وكان غريبا في وضوحه وقربه إلى الفهم، فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة، ولم يكن لغزاً من الألغاز، فلندرس هذا الانقلاب عملياً، ولنتعرف على مدى تأثيره في المجتمع الإنساني والتاريخ البشري".

 


(1) -  أخرجه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب بلال ( 3754) 

(2) -  أضواء على دراسة السيرة ص 22-24.

 



بحث عن بحث