تلبية الفطرة في تعشق البطولة

 الموقف الأول

 في فطرة الإنسان – صغيرا أو كبيرا – ميل إلى سماع قصص البطولة ، وفي سبيل تلبية هذه الحاجة النفسية نشأ جانب كبير من الأدب العالمي الذي يعتمد في غالب الأحيان على التحليق في عالم الخيال ...

والبطولة – هنا – هي موقف متقدم في ميدان ما من ميادين الحياة ، فهي الشجاعة في ميدان القتال ، وهي الكرم في ميدان العطاء ، وهي السماحة في ميدان الحقوق ، وهي العفو في ميدان القدرة ... وهي وهي ...

إن تلك المواقف الفذة تستهوي النفس الإنسانية فتصغي إلى سماعها ، ويكون لها الأثر الكبير في النفس ، حتى ولو كانت مواقف من نسج الخيال أخذت مكانها في قصة كاتب .

وإذا كان الأمر كذلك فإن السيرة تروي هذا الظمأ ، وتلبي حاجة النفس من واقع بعيد عن الخيال يمتاز بالصدق والواقعية ، وإن كان في كثير من المواطن أكبر من الخيال ، وهذان موقفان يعبران أصدق تعبير عن هذا :

1- كلنا يعلم أمر ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد أن يئس من استجابة قريش ، وكانت النتيجة ذلك الرد السيء من أهل الطائف وأمرائها ... فقد أغروا سفهاءهم وصبيانهم بضربه بالحجارة حتى أدميت عقباه واختضبت نعلاه بالدماء .

وجلس بعد أن غادر البلد يدعو ذلك الدعاء المشهور : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ...

وفي هذا الموطن يأتي جبريل وبصحبته ملك الجبال – كما في الصحيحين – ليقول له : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ... وقال له ملك الجبال : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت . قال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ... (1)

هذه البطولة في الصبر وتحمل الأذى الجسدي ، ولقد كان الأذى النفسي أكبر منه ، بطولة فريدة لا يستطيع تقديرها حق قدرها إلا من كتب له بعض المعاناة في دعوته إلى الله تعالى .

وبطولة أخرى لا تقل عن الأولى ذلك الحلم الذي تمثل في رده على ملك الجبال .. إن جبريل وصاحبه وصلا إليه في ذروة الأسى والألم، وقد نزلا إليه بأمر الله لينزل العقوبة بأهل مكة الذين كانوا السبب فيما أصابه .. ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تداعت إلى ذهنه أحداث الماضي خلال سنوات من المشقة والتعب والمعاناة ... إنهم يستحقون العقوبة ... ولولا ذلك لما أنزل الله ملك الجبال ... ومع ذلك لا يقبل أن تنزل بهم العقوبة ويقف حائلا دون ذلك .

إنها بطولة دونها بطولة الميادين – وهو صلى الله عليه وسلم المجلي في كليهما – وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ... (2)

وبطولة ثالثة .. ذلك الأمل الثابت في المستقبل ، واليقين الذي لا يتزعزع بانتصار الدعوة ... بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، إنه يقول هذا وليس هناك أي بارقة أمل ... يقول هذا وهو في موقفه ذاك لا يدري كيف يدخل مكة ثانية بعد أن خرج منها ... إنها البطولة ....


 

(1)- البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم أمين والملائكة في السماء ... ( 3231 ) ، ومسلم ، كتاب الجهاد ( 1795 ) .

(2)- البخاري ، كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب ( 6114 ) ، ومسلم ، كتاب البر والصلة  ( 6643 ) .



بحث عن بحث