تفسير كثير من الآيات الكريمة (2)

 المثال الثاني :

 قال الله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ سورة البقرة /207 ] .

فهذه الآية يتضح معناها وينجلي تفسيرها من خلال ما عرضته كتب السيرة، فعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة فلما ذهب لينطلق بكي صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ، فبعث عليهم عبدالله بن جحش مكانه ، وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : ( لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك ) .

فلما قرأ الكتاب ، استرجع ، وقال : سمعاً وطاعة لله ورسوله ، فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله عز وجل :( يسألونك عن الشهر الحرام ) الآية ، فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله عز وجل :( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم ) . (1)

لقد اتخذ المشركون من حرمة الشهر الحرام ستاراً يحتمون خلفه ، لتشويه موقف الجماعة المسلمة ، وإظهارها بمظهر المعتدي ، وهم المعتدون ابتداء ، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء .

إنهم قوم لا يقيمون للمقدسات وزنا ، ولا يتحرجون أمام الحرمات ، يقفون دون الحق ، ويصدون الناس عنه ، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء ، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ، ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم : انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !.

إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات ، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه ، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات ، ويؤذون الطيبين ، ويقتلون الصالحين ، ويفتنون المؤمنين ، ويرتكبون كل منكر ،وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان .

وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد : إنه يحرم الغيبة ، ولكن لا غيبة لفاسق – فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه ، وهو يحرم الجهر بالسوء من القول ، ولكنه يستثنى ( إلا من ظلم) فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول لأنه حق ، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه ) .

ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدني إلى مستوى الأشرار البغاة ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ، ووسائلهم الخسيسة ، إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم ، وإلى قتالهم وقتلهم ، وإلى تطهير جو الحياة منهم هكذا جهرة في وضح النهار .

وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المستقيمة المؤمنة ، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات ، حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .

هذا هو الإسلام صريحا واضحا ، قويا دامغاً ، لا يلف ولا يدور ، ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .

وهذا هو القرآن يوقف المسلمين على أرض صلبة لا تتأرجح فيها أقدامهم ، وهم يمضون في سبيل الله ، لتطهير الأرض من الشر والفساد ، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس ، وتؤذيها الوساوس .. هذا شر وفساد وبغي وباطل ... فلا حرمة له إذن ، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ليضرب من ورائها الحرمات !.

وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ، في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام مع الله (2).

كذلك تفيدنا دراسة السيرة تحديد تاريخ أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ،ومواقع دلالتها أو ما سماه علماء الحديث والمصطلح ( بيان أسباب ورود الحديث الشريف ) وهذا الأمر يحل لنا مشكل كثير من الأحاديث التي يبدو على ظاهرها التعارض والتناقض وهي في واقع الأمر غير ذلك ،لأن كل حديث ورد في موطن خاص ويفيد معنى وتوجيها غير الآخر الذي يبدو أنه معارض له .

وتفيدنا معرفة الناسخ والمنسوخ في الحديث الشريف مما يتوقف عليه كثير من الأحكام الشرعية .

وبهذا تبدو أهمية السيرة وضرورة دراستها .

 


(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 9/11-12 ) ، والطبري في التفسير ( 2/349-350 ) ، وأبو يعلى في المسند رقم ( 1534 ) ، والطبراني في الكبير ( 1670 ) ، وقال البيهقي : سنده صحيح إن كان الحضرمي هو ابن لاحق ،وقال الهيثمي في المجمع ( 6/198 ) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، وقال السيوطي في الدر المنثور ( 1/ 250 ) : سنده صحيح .

(2) انظر : في ظلال القرآن ( 1/226-227 ) .



بحث عن بحث