أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 9 - 12 )

 

وقال عروة بن مسعود لقريش واصفا حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلدة، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له)(1).

وقدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال : يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني، قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر(2).

هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

لقد وسع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم آفاقهم وساحات قلوبهم وأغوار نفوسهم، فغدوا بشرا من نمط ممتاز لا يعرف التاريخ أمثالهم أبدا، يكفي فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (النجوم أمنة للسماء... وأصحابي أمنة لأمتي)(3). ومن يصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه الأمان فقد كفاه ذلك عزا وفخرا وشرفا وعلوا وسبقا في الصالحين وقربا من الله عز وجل.

ويوم أحب الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهموا ذلك الحب متعا ومشاعر وأشواقا باهتة مبتورة، وإنما فهموه خروجا عن الذات في سبيل نصرة الإسلام، ولم يروا أن قضية الإسلام ينقضي شأنها بالشهور والأيام، وإنما عرفوا أن هذا الإسلام قد اختاره الله سبحانه خطابا أخيرا للإنسانية، خطابا يحمِّلهم ورقة عمل تمتد منذ لحظة إعلان إسلامهم إلى آخر لحظة في حياتهم، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.... هنالك شدوا الحيازيم وعرفوا أن أمامهم رحلة تحليق تمتد إلى آخر عمرهم ارتفعوا فيها فوق شهواتهم وفوق ثقلة الأرض ومطالب الجسد وآلام الأرض وأفراحها وأحزانها.... ارتفعوا إلى حيث المثل والفضيلة والعطاء، ونكران الذات والتجرد والثقة والثبات والتضحية والجهاد.

لقد علمهم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا الإسلام رسالة حب إلى الإنسانية، وعرفهم أن هذه البشرية الضائعة هي أحق بالرحمة والعطف منها بالانتقام والعقوبة، فخرجوا إليها يحملون لها الهداية على مراكب الرحمة والمحبة في سلمهم وحربهم.... ترى أي حب هو أعظم مما تؤديه هذه المفاهيم التي ذكرها ربعي بن عامر وهو يخاطب رستم يوم توجه المسلمون إلى فتح فارس... قائلا : (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)(4). أي حب – ترى – أعظم من هذا  الحب ؟ إنسان يترك مألوف حياته ويترك الأهل والوطن ويضحي بروحه، يعرضها للموت ليخرج إلى أمة لا  تربطه بها رابطة أبدا من أجل أن يبلغها رسالة الإسلام ويخرجها من الظلمات إلى النور.

إن هذه النوايا الطيبة وهذا الحب العظيم لشيء يجل عن الوصف وتعجز عنه اللغة حقا، فمهما أحبت الشعوب الفاتحين المسلمين، ومهما أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرجهم من مدرسته فهو حب قليل في موازين الشكر والجزاء(5).


 


(1)      أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابه الشروط، رقم (2731-2732).

(2)      السيرة لابن هشام (4/ 38).

(3)      أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة، رقم (6466).

(4)      حياة الصحابة (1/203).

(5)      انظر : مختصر الجامع في السيرة (1/17).

 



بحث عن بحث