أهمية السيرة وبواعث دراستها ( 8 - 12 )

 

وليعلم المسلم أن محبة رسول الله صلى الله وعليه وسلم  ليست شيئا رخيصا يشتري بالثمن البخس أو التقديم البسيط أو أداء القليل من السنن والنوافل، وإنما ثمنه أن يترسم في حياته منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، وأن تصبح مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه همه في ليله ونهاره، وفي صحوه ومنامه، وفي سره وعلنه.

إن الصحابة الكرام ما نالوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن القليل... لقد تركوا من أجله – في الله – المال والولد والأهل والوطن، وتركوا الراحة والزعامة ورضوا بالمواجع واستقبلوا المنغصات راضين مسرورين.

في سبيل الله ورسوله كان يحلو عندهم المر، ويسهل الصعب،ويقرب البعيد، وتجمل المهالك، ويعذب الموت، وإن من يقرأ أخبارهم في غزوهم سواء كانوا مع رسول الله صلى الله عليه  وسلم أم كانوا وحدهم في سراياهم يدرك أنهم ما كانوا في غزو أبدا،وإنما كانوا في متنزه يسعد قلوبهم.

لقد كان حب المصطفى صلى الله عليه وسلم يمسح على جراحاتهم وآلامهم، ويهون لهم المصاعب، ويحبب إليهم لقاء العدو، ويرطب لهم جو الصحراء، وكان حبه صلى الله عليه وسلم واحة يأوون إليها من هجير الكفاح وسهام العدو.

وطئ أبو بكر بن أبي قحافة في مكة يوما بعد ما أسلم، وضرب ضربا شديدا، ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال:

ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت:والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. قالت:ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت،قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر.وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع ! قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح ! قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).

وخرجت امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً، هو بحمد الله كما تحبين! قالت: أروينه حتى أنظر إليه. فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل(2)، تريد صغيرة.

وقال أبو سفيان لزيد بن الدثنة وهو يقدم للقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(3).

وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، قل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته(4).


 


(1)    البداية والنهاية: 3/30.

(2)     السيرة لابن هشام ( 2/99 ) والبيهقي في الدلائل ( 3/302 ) بسند ابن اسحاق إلى سعد بن أبي وقاص، وسنده حسن.

(3)     السيرة النبوية لابن هشام ( 3/181 ).

(4)     أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3/201) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

 



بحث عن بحث