الحلقة (47) اختر لنفسك

 

من الأمور التي تؤثر على حياة الإنسان ومستقبله بأمر الله تعالى حاله مع والديه، فغالباً ما نجد أن الذين يعيشون في سلام وهناء هم الذين يبالغون في إكرام والديهم وصلة أرحامهم، وهم أرق الناس طبعاً، وأسرعهم قبولاً للحق وهداية إليه.

تأمل ذلك كله في قوله تعالى في قصة زكريا وعيسى عليهما السلام، )يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) ( وقوله )وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ( سورة مريم.

قال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى:[ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} معطوف على قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: وآتيناه الحكم وحنانا، { وَزَكَاةً } أي: وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل... وقال العوفي عن ابن عباس: { وَزَكَاةً }، قال: بركة { وَكَانَ تَقِيًّا } طهر، فلم يعمل بذنب.

وقوله: { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما، قولا وفعلا وأمرًا ونهيًا؛ ولهذا قال: { وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.

وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصّه بالسلام عليه، { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }

وقوله: { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } أي: ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.

وقال بعض السلف: لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًّا، ثم قرأ:{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}.

وقوله: { وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } : إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد،صلوات الله وسلامه عليه(1)  .

ونقيضهم الذين يفرطون في حق والديهم ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصل، هم أغلظ الناس طبعاً، وأقساهم قلباً، وأبعدهم عن الهداية والصلاح.

وتأمل هذه المعاني في قوله تعالى:

)وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)) سورة الأحقاف

قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى:[لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه ذكر حالة العاق وأنها شر الحالات فقال: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } إذ دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وخوّفاه الجزاء.

وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما أن يدعواه إلى ما فيه سعادته الأبدية وفلاحه السرمدي فقابلهما بأقبح مقابلة فقال: { أُفٍّ لَكُمَا } أي: تبًّا لكما ولما جئتما به.

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ } بهذه الحالة الذميمة { حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي: حقت عليهم كلمة العذاب { فِي } جملة { أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ } على الكفر والتكذيب فسيدخل هؤلاء في غمارهم وسيغرقون في تيارهم.

{ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } والخسران فوات رأس مال الإنسان، وإذا فقد رأس ماله فالأرباح من باب أولى وأحرى، فهم قد فاتهم الإيمان ولم يحصلوا على شيء من النعيم ولا سلموا من عذاب الجحيم.(2) .

     وقد أوضح سبحانه عاقبة العقوق وقطع الأرحام في الدنيا والآخرة بقوله تعالى:

)فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)( سورة محمد

1){ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } بأن أبعدهم عن رحمته، وقربوا من سخط الله.

2){ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } أي: جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه، فلهم آذان، ولكن لا تسمع سماع إذعان وقبول، وإنما تسمع سماعاً تقوم به حجة الله عليها، ولهم أعين، ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات، ولا يلتفتون بها إلى البراهين والبينات(3).

فاختر لحياتك

                                                                                                            بقلم

           د. إلهام بدر الجابري

 


(1)  تفسير القرآن العظيم باختصار  5/217-230 .

(2)  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان باختصار 1/781 .

(3)  المرجع السابق 1/788 .


 



بحث عن بحث