قلوب يعمرها النور (1-2)

 

 

كما أن للعين نوراً تُبصر به وترى ما حولها؛ فإذا ما غاب عنها عميت، كذلك فإن للقلب نوراً يُبصر به، ويرى حقائق الأمور فإذا ما غاب عنه ذلك النور عمِي وتاه وتخبط قال الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) [الإسراء : 72] .

ونور القلب هو أهم مظهر لحياته، فبدونه يصير القلب مُظلما، قاسيًا ضيقًا موحشًا.

فإذا ما دخله بصيص من نور الإيمان تغيرت طبيعته، وتحسنت حالته، وعكس ذلك على جوارحه فأثمر بالعمل الصالح.

وكلما استمر النور في الدخول؛ فالإيمان في زيادة ونمو.

وأما إذا ما دخل النور القلب، ولم يعمل صاحبه من أجل كسبه والظفر به؛ فسيتناقص شيئا فشيئا، ويخبو ضوءه وقد يضمحل، وينزوي في القلب، ومن ثَمَّ تزحف الظلمة إليه لتكون النتيجة: اختفاء الكثير من الآثار الإيجابية والثمار الطيبة للإيمان يقول الله تعالى: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) [الحديد : 16].

ويكفيك لتأكيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان يَخْلَق في القلوب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم».

وروى الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((إذا دخل النور القلب انفسخ وانشرح قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله)) صححه الألباني في صحيح الجامع

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القلوب أربعة:

قلب أجرد، فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح ؛ فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نوره ؛ وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس؛ فقلب المنافق عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح؛ فقلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه ) رواه الإمام أحمد و قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد حسن

وهذا النور لا يُحصّل بالدرهم و الدينار و إنما هو هبة الله عز وجل فهو الذي يهب هذا النور لمن يشاء قال الله تعالى : (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) و قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (سورة النور:35)

لذلك نحن ندعوا الله 17 مرة في الصلاة أن يهدينا الصراط المستقيم

وقد تربى في ظل العقيدة الإسلامية نماذج من البشر يحسبهم المرء أنهم خُلقوا من طينة غير تلك الطينة التي خُلق منها سائر الخلق الإنساني، نماذج آمنت بإله واحد لا شريك له، وأن الأمر كله بيده.

فعمر النور قلوبهم وسطروا أروع الصور فعاشوا للحق، وتمسكوا به، وصبروا عليه، وجاهدوا الباطل، ونهوا عنه، وتحملوا تكاليفه العسيرة برضا وطمأنينة؛ لأنها تعلم حق العلم أن العطاء من الله كبير، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111[

مواقف أصحاب القلوب النيرة:

1) خرج في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مسليمة الكذاب بعدما جاء مع وفد ٍمن قومه لمبايعة رسول الله واخذ أعطياتهم .ولما عادوا لبلادهم أظهر لقومه نبؤته الكاذبة وحيث أن قومه لم يصدقوه لكنهم آمنوا به حميةً وتعصباً بل إن بعضهم قال: (والله إني لأعلم أن محمداً صادق وأن مسيلمة لكاذب ولكن كذاب ربيعة أحب إليّ من صادق مضر)

وأرسل هذا الكذاب برسالة إلى رسول الله يقول فيها: من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أم بعد، فاني قد أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!
ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين، وأملى عليه ردّه على مسيلمة:

" بسم الله الرحمن الرحيم..من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب.

السلام على من اتبع الهدى..


أما بعد، فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"..!!

واختار رسول الله موفداً يحمل رسالته إلى مسيلمة  وهو الصحابي الجليل (حبيب بن زيد) رضي الله عنه وكان آنذاك شاباً في ريعان شبابه.

فقام من ساعته غير متواني ولا هيّاب وهو يعلم أنها ربما ستكون رحلته الأخيرة لكنه لا يأبه لحياته إن كانت ثمناً لطاعة الله ورسوله.

وسافر رضي الله عنه تحمله الوهاد وتحطه النجاد حتى قدم إلى أرض اليمامة ودخل قصر الكذاب وسلّمه الرسالة يداً بيد.

وما أن قرأها الكذاب حتى انتفخت أوداجه غضباً وخنقاً وأمر بحبيب بن زيد أن يُزَجَّ في السجن وأن تحاط به الأغلال والأصفاد حتى ينظر في شأنه

وفي اليوم التالي أمر مسيلمة رجاله أن يحضروا حبيباً فجيء به يرزخ في قيوده وقال له:

أتشهد أني رسول الله؟

قال حبيب في عزة وأنفة: إن في أذني صمماً مما تقول

قال :أتشهد أن محمد رسول الله.

قال: أشهد أن محمداً رسول الله.

وهنا انتفخت أوداج الكذاب وثار ت نفسه حقداً وحنقاً

وأمر جلاده أن يقطع قطعةً من جسد حبيب حتى إذ سال الدم وتدحرجت القطعة أمامه

قال :فالآن أتشهد أني رسول الله ؟

قال حبيب في ثقة المؤمن بربه: إن في أذني صمماً مما تقول ؟

قال الكذاب:وتشهد أن محمدا رسول الله.

قال :وأشهد أن محمدا رسول الله.

فمازال الكذاب به ومازال الجلاد يقطع من جسده القطعة تلو القطعة تلو القطعة وحبيب ثابت بإيمانه حتى فاضت روحه وسكنت نفسه.

وأتى نبأ استشهاد حبيب بن زيد إلى رسول الله ,ومضى يُعزي أم حبيب ويصبرها فوجدها أعظم صبراً وثباتاً ولم تزد على أن قالت: لمثل هذا اليوم أعددته لقد بايعك بيعة العقبة الأولى وهو ابن 12 عاماً وقد وفى بما بايعك عليه.

فيالله ما أعظم هذا الموقف وما أشد أثره على الأرواح.

فالإيمان بالله عز وجل هي السمة الأولى لأصحاب القلوب النيرة

2)قال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس" ويروى مرفوعاً.

فتقوى الله هو عماد القلوب النيرة وسراجها الذي يضيئها.

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) متفق عليه.

قال أبو بكر رضي الله عنه: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال؛ مخافة أن نقع في باب من الحرام " جامع العلوم والحكم.

عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أنه خرج إلى عمر فنزل عليه، وكانت لعمر ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنًا فأنكره، فقال: "ويحك! من أين هذا اللبن؟" فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناقة انفلت عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقة من مال الله. فقال له عمر: ويحك! سقيتني نارًا، ادعُ لي علي بن أبي طالب. فدعاه، فقال: إن هذا عمد إلى ناقة من مال الله، فسقاني لبنها أفتحله لي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هو لك حلال ولحمها، وأوشك أن يجيء من لا يرى لنا في هذا المال حقًّا.

قال شيخ الإسلام رحمه الله:" الورع المشروع، هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو / ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله ..مجموع الفتاوى بتصرف.

فتقوى الله هو عماد القلوب النيرة وسراجها الذي يضيئها.

 

يتبع مواقف أصحاب القلوب النيرة

بقلم 

أ‌.     باسمة الجابري



بحث عن بحث