حقوق المولود (6-9)

الرضـــاع:

 

إن من عناية الإسلام بالأسرة أن نظّم شؤونها تنظيماً دقيقاً ، وكفل لكل فرد منها حقوقه ، وأوعز إليه بواجباته ، كل ذلك في جو من الحب والعطف والتراحم وارتباط بثواب الله تعالى ورضاه ، بعيداً عن المبادئ الجافية التي تجعل العلاقات الأسرية مجرد تبادل مصالح ومنافع -لاتنال حقاً حتى تدفع مثله- ، وتأمّل مثلاً تلك الصورة الحانية بين الأم ووليدها في قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير )(1).

 

فالآية تحمل الولد على حسن القيام بأمه وبرها وإن شقّ عليه من خلال تذكيره بفضلها عليه حين حملته وهناً على وهن أي جهداً على جهد وضعفاً على ضعف ، وصبرت على تربيته وإرضاعه عامين كاملين(2) ، ولا تزال تضعف هي ويقوى هو حتى إذا كبر واشتدّ عوده انعطف عليها بحنوه وبره شكراً لله تعالى وشكراً لوالديه لا تمنناً عليهما وتفضلاً فقد سبقاه بالفضل والمنّ . وفي الوقت نفسه تدعو الآية الكريمة الأم إلى الاعتناء بوليدها - تربيته وارضاعه - من خلال الثناء على الأم التي استحقت البر والشكر لذلك . ؛ ولهذا ختم سبحانه الآية بقوله { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر الجزاء . 

بل ويجعل سبحانه حق الطفل في الرضاعة والرعاية ثابتاً على أبويه في قوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )(3).

يقول ابن كثير : [هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات: أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان ... وقوله: { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره،... ، وقوله: { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } أي: لا تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ  الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا، ثم بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضّرار لها. ولهذا قال: { وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي: بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها .

وقوله: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها .

وقوله: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤْخَذُ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبدّ بذلك من غير مشاورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلاق: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [الطلاق:6].

وقوله: { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف.

وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أحوالكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم ](4) .

 

وقد حفظ الله حق المولود في الرضاع حتى في حال تفرق الأبوين ، قال سبحانه (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )(5).

قال ابن كثير رحمه الله :[ قوله: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي: إذا وضعن حملهن وهن طوالق، فقد بنَّ بانقضاء عدتهن، ولها حينئذ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذيه باللبَّأ -وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للولد غالبًا إلا به-فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة؛ ولهذا قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وقوله: { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف، من غير إضرار ولا مضارة، كما قال تعالى في سورة "البقرة" : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة : 233]

وقوله: { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } أي: وإن اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلاً ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها. فلو رضيت الأم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها ] (6) .

 وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بحضانة المولود لأمه المطلقة ليتسنى لها رضاعه ورعايته ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي »(7).

 

وليس هذا فحسب بل أخّـر النبي صلى الله عليه وسلم  إقامة الحد على الأم التي وقعت في حد من حدود الله إلى حين فطام الولد ، كما ورد في قصة المرأة الغامدية ، عن بريدة رضي الله عنه قَالَ فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. وَإِنَّهُ رَدَّهَا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى. قَالَ « إِمَّا لاَ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي ». فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِى خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ. قَالَ « اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ ». فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِى يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ. فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ « مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ». ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ(8).

 

وبعد هذا لا أخال الأم المسلمة إلا مقبلة على الرضاعة حريصة عليها ، حرصاً على الثواب والأجر ، وعلى تنشئة ولد تنشئة سوية يعبد الله تعالى ويدعو إليه ؛ ولا تظننَّ أمٌّ أن الرضاعة أمر يسير ؛ فهي تحتاج إلى تهيؤ وإعداد واستعانة بالله .

 


(1) سورة لقمان آية 14 .

(2) تفسير ابن كثير6/336 وقال: [وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهارًا، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى: { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 24] .

(3) سورة البقرة آية 233 .

(4) تفسير ابن كثير 6/337 باختصار ، وانظر تفسير الطبري 5/32 .

(5) سورة الطلاق آية 6 و 7 .

(6) تفسير ابن كثير 8/153 .

(7) أخرجه أبو داود باب من أحق بالولد ؟ ح2278-2/251 وحسنه الألباني ،  وأحمد ح6707-2/182 ،  والدارقطني باب المهر ح218-3/304 ، والبيهقي في السنن الكبرى باب الأبوين إذا افترقا ح15541-8/4 ،  والحاكم ك الطلاق ح2830-225 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وعبد الرزاق باب أي الأبوين أحق بالولد ح12596-7/253 ،

(8) أخرجه مسلم باب من اعترف على نفسه بالزنا ح4528-5/120 ، والمكس  الضريبة التي تؤخذ على خلاف حكم الشرع .



بحث عن بحث