أحكام الحضانــة إذا حصلت الفرقة(5-7)

 

 

 

 

مــــدة الحضانة:

اتفق الفقهاء على أن الحضانة تبدأ منذ ولادة الطفل إلى سن التمييز، وهو السن التي يستغني فيها الولد ذكراً أو أنثى عن خدمة النساء، ويستقل بنفسه في الأكل والشرب واللبس والاستنجاء، وقدِّر زمن استقلاله بسبع سنين؛ لأنه الغالب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)(1) والأمر بها لا يكون إلا بعد القدرة على الطهارة.

واختلفوا في بقاء الحضانة بعد سن التمييز وتخيير الولد.

القول الأول: اتفق الشافعية والحنابلة على أن الحضانة إلى سن التمييز ثم اختلفوا؛ فقال الشافعية

قال الحنفية(2): الحاضنة أماً أو غيرها أحق بالغلام حتى التمييز وعندئذ يرجع إلى الأب؛ لأنه إذا استغنى يحتاج إلى تأديب والتَّخَلّق بآداب الرجال وأخلاقهم والأب أقدر على التأديب والتعنيف .

والأم والجدة أحق بالفتاة الصغيرة حتى تبلغ بالحيض أو الشهوة أو السن؛ لأنها بعد الاستغناء تحتاج إلى معرفة آداب النساء كالغزل والطبخ وغسل الثياب ونحوها، والمرأة على ذلك أقدر، وأما بعد البلوغ فتحتاج إلى التحصين والحفظ، والأب فيه أقوى وأهدى.

وقال المالكية(3): تستمر الحضانة في الغلام إلى البلوغ، على المشهور من مذهبهم، ولو مجنوناً أو مريضاً، وفي الأنثى إلى الزواج ودخول الزوج بها، ولو كانت الأم كافرة. وهذا في الأم المطلقة أو من مات زوجها. وأما من في عصمة زوجها فهي حق للزوجين جميعاً.

ولا يخيّر الولد في رأي الحنفية والمالكية؛ لأنه لا قول له، ولا يعرف حظه، ولقصور عقله قد يختار من عنده الدّعة والراحة لتخليته بينه وبين اللعب فلا يتحقق النظر (4).

والمراد بعدم تخييره أنه إذا بلغ السن الذي ينزع من الأم يأخذه الأب ولا خيار للصغير .

وقال الشافعية(5) والحنابلة(6) : إن الحضانة إلى التمييز، واتّفقوا على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد مميز ذكر، وله سبع أو ثمان سنين، وصلح الزوجان للحضانة، حتى لو فضل أحدهما الآخر ديناً أو مالاً أو محبة، وتنازعا في الحضانة، خُيِّر بينهما، وكان عند من اختار منهما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه»(7) .

فإن اختار الأب سُلِّم إليه وإن اختار الأم سُلم إليها، فإن اختارهما معا أُقرع بينهما وسُلّم لمن خرجت قرعته منهما، وله بعد اختيار أحدهما اختيار الآخر؛ لأنه قد يظهر له الأمر على خلاف ما ظنّه كأن يظن أن في الأب خيراً فيظهر له أن فيه شراً، أو يتغيّر حال مَن اختاره أولاً فيُحوّل إلى من اختاره ثانياً وهكذا حتى إذا تكرر منه ذلك نقل إلى من اختاره ما لم يظهر أن ذلك لقلة تمييزه وإلا ترك عند من كان عنده قبل التمييز.

فإن عُلِم أنه يختار أحدهما ليُمكّنه من فساد ويكره الآخر للأدب لم يعمل بمقتضى شهوته .

ولو اختار الولد أحد الأبوين، فامتنع من كفالته، كفله الآخر، فإن رجع الممتنع أعيد التخيير.

فإن اختار أباه كان عنده ليلاً ونهاراً ولا يمنع من زيارة أمه ، وإن مرض كانت أحق بتمريضه في بيتها ، وإن اختار أمه كان عندها ليلاً وعند أبيه نهاراً ليعلمه الصناعة والكتابة ويؤدبه .

وكما يقع التخيير بين الأبوين يقع أيضاً عند فقد أحدهما بين الذي لم يفقد من الأبوين وبين غيره ممن له الحضانة ، فإذا كان المفقود الأب يقع التخيير بين الأم والجد إن وجد ، فإن لم يوجد وقع التخيير بينها وبين من على حاشية النسب كأخ وعم ، وإذا فقدت الأم وقع التخيير بين الأب والأخت لغير أب فقط بأن كانت شقيقة أو لأم أو بين الأب والخالة إن لم توجد الأخت ، وعند فقدهما معاً ، أو امتناعهما عن حضانته ، يقع التخيير بين الأخت أو الخالة وبقية العصبة .

وإن صلح أحد الأبوين للحضانة دون الآخر بسبب جنون أو كفر أو رق أو فسق، أو زواج الأنثى أجنبياً، فالحق للآخر فقط، ولا تخيير لوجود المانع. فإن عاد صلاح الآخر عاد التخيير.

واستدل الشافعية والحنابلة على تخيير الغلام بما يأتي :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَقَدْ نَفَعَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  « اسْتَهِمَا عَلَيْهِ ». فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِى وَلَدِي ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم  « هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ ». فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ(8)

ولأنه إجماع الصحابة فروي عن عمر أنه خيّر غلاماً بين أبيه وأمه(9)، وروي عن عُمَارَةَ الْجَرْمِىِّ قَالَ: خَيَّرَنِي عَلِىٌّ رضي الله عنه بَيْنَ أُمِّي وَعَمِّي، ثُمَّ قَالَ لأَخٍ لِي أَصْغَرَ مِنِّي وَهَذَا أَيْضًا لَوْ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغَ هَذَا لَخَيَّرْتُهُ(10). وروي نحو ذلك عن أبي هريرة. وهذه قصص في مظنة الشهرة ولم تُنكر فكانت إجماعاً .

ولأن التقديم في الحضانة لحق الولد، فيتقدم من هو أشفق؛ لأن حظ الولد عنده أكثر ، فإذا بلغ الغلام حداً يُعرب عن نفسه ويُميّز بين الإكرام وضده فمال إلى أحد الأبوين دلَّ على أنه أرفق به وأشفق عليه فقُدّم بذلك ، وقيّدناه بالسبع لأنها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالأمر بالصلاة، ولأن الأم قُدّمت في حال الصغر لحاجته إلى حمله ومباشرة خدمته ، لأنها أعرف بذلك وأقوم به، فإذا استغنى عن ذلك تساوى والداه لقربهما منه فرجح باختياره .

وإنما يخير الغلام بشرطين:

أحدهما ـ أن يكون الأبوان وغيرهما من أهل الحضانة: فإن كان أحدهما من غير أهل الحضانة، كان كالمعدوم، ويتعيّن الآخر.

الثاني ـ ألا يكون الغلام معتوهاً: فإن كان معتوهاً كان عند الأم، ولم يخير؛ لأن المعتوه بمنزلة الطفل، وإن كان كبيراً، لذا كانت الأم أحق بكفالة ولدها المعتوه بعد بلوغه.

أما الفتاة إذا بلغت سبع سنين، فالأب أحق بها عند الحنابلة، ولا تخير عندهم خلافاً للشافعية؛ لأن غرض الحضانة الحظ والمصلحة، والحظ للفتاة بعد السبع في الوجود عند أبيها؛ لأنها تحتاج إلى حفظ، والأب أولى به، فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها .

لكن إذا كانت البنت عند الأم أو عند الأب، فإنها تكون عنده ليلاً ونهاراً؛ لأن تأديبها في جوف البيت، كتعليمها الغزل والطبخ وغيرهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله::[وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر، فلو قُدّر أنه عاجز عن حفظها وصيانتها، ويهملها لاشتغاله عنها، أو لقلة دينه ، والأم قائمة بحفظها وصيانتها؛ فإنه تُقدّم الأم في هذه الحال، فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها واندفعت به مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدّمناه إنما نُقدِّمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته .

وقال رحمه الله: "وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة، وهو يتركها عند ضرة أمها، لا تعلم مصلحتها، بل تؤذيها وتقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها؛ فالحضانة هنا للأم قطع ](11)

يتبع حكم الولد إذا بلغ واستغنى هل ينفرد بالسكنى أو يستمر عند الأب ؟


(1) سبق تخريجه .

(2) انظر : البحر الرائق 4/184 وما بعدها ، العناية شرح الهداية 6/186 . موقف القانون: قرر القانون المصري رقم (25) لسنة (1929) أن حق الحضانة ينتهي عند بلوغ الصغير سبع سنين، وبلوغ الصغيرة تسعاً. وكان هذا هو المقرر في القانون السوري، ثم عدل الحكم سنة (1975)، فنصت المادة (146) على أنه: تنتهي مدة الحضانة بإكمال الغلام التاسعة من عمره، والبنت الحادية عشرة.

(3) انظر : الشرح الكبير للدردير 2/526 ، مواهب الجليل 5/594 .

(4) انظر : البحر الرائق 4/186 .

(5) انظر : إعانة الطالبين 4/101 ،  المجموع شرح المهذب 18/324 ، مغني المحتاج 3/456 .

(6) انظر : الإقناع في فقه الإمام أحمد 4/160 ، المغني 9/301 .

(7) سيأتي الحديث بتمامه أخرجه أبو داود باب من أحق بالولد ح2279-2/251 وصححه الألباني ، والنسائي باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد ح3496-6/185 ، والدارمي باب في تخيير الصبي بين أبويه ح2293-2/223 وصححه حسين سليم أسد ، والحاكم ك الأحكام  ح7039-4/108 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

(8) أخرجه أبو داود باب من أحق بالولد ح2279-2/251 وصححه الألباني ، والنسائي باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد ح3496-6/185 ، والدارمي باب في تخيير الصبي بين أبويه ح2293-2/223 وصححه حسين سليم أسد ، والحاكم ك الأحكام  ح7039-4/108 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

(9) انظر السنن الكبرى للبيهقي باب الأبوين إذا افترقا 8/4 .

(10)  أخرجه الشافعي في المسند ح1378-1/288 ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى باب الأبوين إذا افترقا ح16179-8/4 .

(11)  المستدرك على مجموع الفتاوى 5/83 و85 .

 



بحث عن بحث