فسخ النكاح لإعسار الزوج(1)أو غيبته(1-3)

 

 

إذا عجز الزوج عن دفع مقدم الصداق وعن النفقة فهل للزوجة الحق في طلب فسخ العقد أو لا ؟ له حالتان :

الحالة الأولى : أن يكون للزوج بينة على إعساره أو تصدقه الزوجة وفي هذه الحالة اختلف العلماء على قولين هما :

القول الأول الحنفية وهو الصحيحُ من مذهب أحمد ، اختاره عامة أصحابه، وهو قولُ كثير من أصحاب الشافعي. - قالوا : إذا عجز الزوج عن دفع المهر أو النفقة بجميع أنواعها فلا حق للزوجة في فسخ الزواج بذلك على أي حال وإنما لها الحق في منع نفسها منه وعدم التقيد بإذنه في السفر والخروج . ونحو ذلك . وتستدين عليه وعليه السداد إذا أيسر ، وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها لأن في حبسها بغير نفقة إضراراً بها .

واحتج من لَم ير الفسخ بالإِعسار بما يلي :

- بقوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا مَا أتاهَا)(2)قالوا: وإذا لم يُكلفه الله النفقة في هذه الحال، فقد ترك ما لا يجب عليه، ولم يأثم بتركه، فلا يكون سبباً للتفريق بينه وبين حبِّه وسكَنه وتعذيبه بذلك.

وقالوا أيضاً: وإذا أعسر ولم يجد سبباً يمكنه به تحصيل النفقة فلا تكليف عليه بدلالة الآية.

يجاب عنه بأنا لم نكلفه النفقة حال إعساره، بل دفعنا الضرر عن امرأته وخلّصناها من حباله لتكتسب لنفسها أو يتزوجها رجل آخر.

- روى مسلم في "صحيحه": من حديث أبي الزبير، عن جابر، دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجداه جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقالَ أبو بكر: يا رسول الله! لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها، فوجأتُ عنقها، فضَحِكَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: هُنَّ حَوْلِي كما ترى يَسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عُنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقولُ: تسألنَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأَلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً أبداً ما ليس عنده، ثم اعتزلهُنّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً وذكر الحديث.

قالوا: فهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان ابنتيْهما بحضرة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذ سألاه نفقةً لا يجِدُها. ومن المحال أن يضرِبا طالبتين للحق، ويُقرَّهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدلَّ على أنه لا حقَّ لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإِعسار، وإذا كان طلبُهما لها باطلاً، فكيف تمكن المرأةُ من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبُه، ولا يحلُّ لها.

ويجاب عن هذا بعدة أجوبة؛ أن زجرهما كان لأجل أنهما خالفتا الأولى في جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصبر معه على اللأواء والشدّة حتى يكنّ زوجاته في الجنة.

وأن زجرهما عن المطالبة بما ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  لا يدل على عدم جواز الفسخ لأجل الإعسار، ولم يرو أنهن طلبنه ولم يجبن إليه، كيف ؟ وقد خيَّرهن صلى الله عليه وسلم  بعد ذلك فاخترنه.

وأجيب أيضاً عن هذا الحديث بأن أزواجه صلى الله عليه وسلم لم يُعْدَمن النفقة بالكلية، لأنه صلى الله عليه وسلم  قد استعاذ من الفقر المدقع، ولعل ذلك إنما كان فيما زاد على قوام البدن.

- أمر الله سبحانه صاحب الدَّين أن يُنْظِرَ المُعْسِرَ إلى الميسرة، وغايةُ النفقة أن تكون ديناً، والمرأةُ مأمورة بإنظار الزوج إلى الميْسَرَةِ بنص القرآن هذا إن قيل: تثبت في ذمة الزوج، وإن قيل: تسقط بمضي الزمان، فالفسخ أبعد وأبعد.

وقالوا: فالله تعالى أوجب على صاحب الحقِّ الصبرُ على المعسر، وندبه إلى الصَّدَقَةِ بترك حقه، وما عدا هذين الأمرين، فجورٌ لم يُبحه له، ونحن نقولُ لهذِهِ المرأة كما قال الله تعالى لها سواءً بسواءٍ؟ إما أن تُنظريه إلى الميسرة، وإما أن تَصَدَّقي، ولا حقَ لَكِ فيما عدا هذين الأمرين.

- قالوا ولم يزل في الصحابة المُعْسِرُ والموسِرُ، وكان مُعسِرُوهم أضعافَ أضعافِ موسريهم، فما مكَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قطُ امرأةً واحدة من الفسخ بإعسار زوجها، ولا أعلمها أن الفسخَ حق لها فإن شاءت، صبرت، وإن شاءت، فَسَخَتْ، وهو يشرعُ الأحكام عن الله تعالى بأمره، فهبْ أن الأزواج تركن حقهن، أفما كان فيهن امرأةٌ واحدةٌ تُطالِبُ بحقها، وهؤلاء نساؤه صلى الله عليه وسلم خيرُ نساء العالمين يُطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه، وحلفَ ألا يدخُلَ عليهن شهراً مِن شدة مَوْجِدَتِهِ عليهن، فلو كان مِن المستقر في شرْعِهِ أن المرأة تملِكُ الفسخَ بإعسار زوجها لرفع إليه ذلك، ولو مِن امرأة واحدة،

وأجيب أن نساء الصحابة رضي الله عنهن كُنَّ يُرِدْنَ الدارَ الآَخرة، وما عند الله، ولم يكن مرادُهُنَّ الدنيا، فلم يكنَّ يُبالين بعُسر أزواجهن، لأن أزواجهن كانوا كذلك. وأما النساء اليوم، فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا، فصار هذا المعروفُ كالمشروط في العقد، وكان عرفُ الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد .

كما أن القول بحقها في الفسخ في حال جهلها بإعساره، أو تغريرها، وهذا منتفٍ عند الصحابة في الغالب.

- قالوا: وقد جعل الله الفقر والغنى مطيَّتينِ للعباد، فيفتقِرُ الرجل الوقت ويستغني الوقتَ، فلو كان كُلُّ من افتقر، فسخت عليه امرأته، لعم البلاءُ، وتفاقم الشرُّ، وفسخت أنكحة أكثرِ العالم، وكان الفراق بيدِ أكثر النِساء، فمن الذي لم تُصِبْهُ عُسْرةٌ، ويعوز النفقة أحياناً.

وأُجيب عن هذا أن هذا خارج عن محل الخلاف.

القول الثاني : المالكية والشافعية والحنابلة - قالوا : إذا عجز الزوج عن دفع المهر بإعساره فإن صبرت الزوجة عليه فذاك وإلا فلها فسخ الزواج بشروط :

الأول : أن تكون حرة فلا حق للأمة في الفسخ بإعسار الزوج بل الحق في ذلك لسيدها إن شاء فسخ . وإن شاء لم يفسخ وليس له الحق في الفسخ من أجل الإعسار بالنفقة.

الثاني : أن تكون مكلفة فإذا كانت صغيرة فليس لها ذلك وكذا ليس لوليها خلافاً للشافعية ومثل الصغيرة المجنونة .

الثالث : لها الحق في الفسخ ولو بعد الدخول خلافاً للمالكية والشافعية رفعاً للضرر عنها.

الرابع : أن لا تكون عالمة بعسره فإن تزوجته وهي عالمة بأنه معسر فلا حق لها في الفسخ خلافاً للشافعية .

الخامس : أن يثبت إعساره بإقرار أو بينة عند قاض وإلا فلا فسخ .

السادس : أن يصدر الفسخ من الحاكم فليس للمرأة الفسخ من تلقاء نفسها . وإذا رفع الأمر للقاضي وثبت أنه معسر بالبينة ، أو بتصديقها فإنه لا يجبر على الدفع بل ينظر إلى ميسرة وتحديد الزمن الذي يؤجل فيه موكول لاجتهاد القاضي فله أن يؤجله سنة ، أو أقل ، أو أكثر لا فرق في ذلك بين أن يكون الزوج ممن يرجى يساره أو لا على الصحيح ؛ لأن اليسار موكول للظروف فلا يمكن الجزم بأن هذا لا يرجى له يسار فإذا عجز بعد ذلك طلق القاضي عليه .

هذه السلسلة بقلم

د. إلهام بدر الجابري


(1) انظر : العناية شرح الهداية 6/211 ، الفواكه الدواني 3/1077،  الأم 5/88 و91، المجموع شرح المهذب 18/267 وما بعدها ، إعانة الطالبين 4/93 ، حاشية الروض المربع 7/125 ، مجموع الفتاوى 30/57 ، زاد المعاد 5/511 وما بعدها ، الفقه على المذاهب الأربعة 4/86 .

(2) سورة الطلاق آية 7 .

 



بحث عن بحث