الطـــلاق (7-12)

 

 

 

القسم الثاني طلاق بدعي من حيث العدد

بأن يقيد الطلاق الصريح بعدد صريح كأن يقول لها : أنت طالق اثنتين أو يقول ثلاثاً ، أو يقول : أنت طالق طالق طالق ، أو يفصل بينها بـ (الواو) أو (أو)  فهل يلزم بعدد الطلقات أو تحسب واحدة ؟ (1) .

إن ادّعى الزوج أن تكراره للفظ الطلاق إنما هو لإفهامها أو إسماعها ونحو ذلك وقعت واحدة ديانة لا قضاء اتفاقاً .

وإن قصد الطلاق و لم ينو شيئاً فقد اختلف العلماء على قولين :

القول الأول : جمهور العلماء منهم أئمة المذاهب الأربعة ؛ أن الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد يقع ثلاثاً وتبين منه امرأته . واستدلوا بما يلي :

1)   قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ(2))  يدل على وقوع الثلاث معاً مع كونه منهياً عنه؛ لأن قوله تعالى: {الطلاق مرتان} تنبيه إلى الحكمة من التفريق، ليتمكن من المراجعة، فإذا خالف الرجل الحكمة، وطلق اثنتين معاً، صح وقوعهما إذ لا تفريق بينهما، ثم إن قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) (3)يدل على تحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ، ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار.

2)   قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (4) والطلاق المشروع ما يعقبه عدة، وهو منتف في إيقاع الثلاث في العدة، وفيها دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالماً لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ومن لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثاً مثلاً، فقد ظلم نفسه.

3)   ومنه آية (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين) (5) وغيرها من آيات الطلاق. تدل ظواهر هذه الآيات على ألا فرق بين إيقاع الطلقة الواحدة والاثنتين والثلاث.

وأجيب: بأن هذه عمومات مخصصة، وإطلاقات مقيدة بما ثبت من الأدلة الدالة على المنع من وقوع ما فوق الطلقة الواحدة.

4)   السنة: منها حديث سهل بن سعد في المتلاعنين قَالَ سَهْلٌ: فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (6). ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم .

وأجيب: إنما لم ينكره عليه؛ لأنه لم يصادف محلاً مملوكاً له ولا نفوذاً.

5)   حديث مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانًا ثُمَّ قَالَ ( أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ) حَتَّى قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ (7) .

هذا يدل على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يكون ثلاثاً، ويلزم بها المطلّق ، وإن كان عاصياً في إيقاع الطلاق بدليل غضب النبي عليه الصلاة والسلام.

وأجيب بأنه حديث مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله e ، وإن كانت ولادته في عهده عليه السلام . وهذا مردود ؛ لأن مرسل الصحابي مقبول.

 

القول الثاني : قال شيخ الإسلام ابن تيمية(8)وتلميذه ابن القيم أن الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحدة(9)واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:

1)   آية(الطلاق مرتان) إلى قوله تعالى في الطلقة الثالثة: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)  أي أن المشروع تفريق الطلاق مرة بعد مرة، لأنه تعالى قال: {مرتان} ولم يقل «طلقتان» .

ويرد عليه بأن الآية ترشد إلى الطلاق المشروع أو المباح، وليس فيها دلالة على وقوع الطلاق وعدم وقوعه إذا لم يكن مفرقاً، فيكون المرجع إلى السنة، والسنة بينت أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً.

2)   عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الطَّلاَقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ طَلاَقُ الثَّلاَثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ. فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ.وفي رواية أخرى أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ أَتَعْلَمُ أَنَّمَا كَانَتِ الثَّلاَثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ وَثَلاَثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَعَمْ. (10)

وهذا واضح الدلالة على جعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة.

وأجيب عنه بأنه محمول على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات، بأن يقول: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الغالب عليهم الصدق وسلامة المقصد ، ولم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد، فلما رأى عمر في زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيرت، وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل، ألزمهم الثلاث في صورة التكرير، إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة» .

3)   عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( كَيْفَ طَلَّقْتَهَا قَالَ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا قَالَ فَقَالَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إِنْ شِئْتَ ) قَالَ فَرَجَعَهَا فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍِ (11) .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم  { في مجلس واحد } مفهومه أنه لو لم يكن في مجلس واحد لم يكن الأمر كذلك ؛ وذلك لأنها لو كانت في مجالس لأمكن في العادة أن يكون قد ارتجعها ؛ فإنها عنده والطلاق بعد الرجعة يقع . وقد روى أبو داود وغيره { أن ركانة طلق امرأته ألبتة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم  الله  ما أردت إلا واحدة ؟ فقال : ما أردت بها إلا واحدة . فلو كان أراد ثلاثاً لوقعت ثلاثاً .

وأجيب على هذا الاستدلال بأنه يدل على أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً ما لم ينو خلافه المطلِّق ؛ وإلا لما كان لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم ركانة عن مقصده وجه ، كما أن حزن ركانة دليل على أنه من المستقر عندهم يومئذ أن الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد يقع ثلاثاً .

الراجح والله تعالى أعلم : قول الجمهور أن الطلاق المجموع يقع بعدده لقوة أدلتهم وسلامتها من الاعتراض المؤثر. وقد ثبت عن عدد من الصحابة قولهم بوقوع الطلاق (12)منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ، وابن عباس ، وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين .


(1) انظر البحر الرائق 3/311 ،  المبسوط 6/7 ، المدونة 2/3 ، الاستذكار 6/4 ،  الأم 5/139 و181، المجموع شرح المهذب 17/132 ، المغني 8/400 ، إعلام المقعين 3/30 ، إغاثة اللهفان 1/325 ،

(2) سورة البقرة آية 229 .

(3) سورة البقرة من آية 229-231 .

(4) سورة الطلاق آية 1 .

(5)سورة البقرة آية 241 .

(6) أخرجه البخاري باب التلاعن في المسجد ح5003-5/2033 ، ومسلم باب وحدثنا يحيى بن يحيى ح3816-4/205    واللفظ له .

(7) أخرجه النسائي باب الثلاث المجموعة وما فيها من التغليظ ح3401-6/142 قال الألباني:ضعيف .

(8) نظر مجموع الفتاوى 33/13 .

(9) قال أد. وهبة الزحيلي في كتابه  الفقه الإسلامي وأدلته 9/384 :[ وأخذ القانون في مصر وسورية بهذ الرأي،نص    القانون السوري على ما يلي:

(م 91) - يملك الزوج على زوجته ثلاث طلقات.    (م 92) - الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً. ]

(10) أخرجه مسلم باب طلاق الثلاث ح3746و3747 -4/183 .

(11) أخرجه أحمد في مسنده ح2387-4/215 قال شعيب الأرنؤوط : إسناده ضعيف... وقال الخطابي : وكان أحمد بن حنبل يضعف هذه الأحاديث كلها . ( قلنا ) ونص ابن قدامة في المغني على أن أحمد ضعف إسناد حديث ركانة هذا وتركه . وقال الحافظ في الفتح : إن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل ألبتة على الثلاث فقال طلقها ثلاثا فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس . قلنا : ومع هذا فقد جود ابن تيمية سند هذا الحديث في الفتاوى وصححه ابن القيم في الزاد وأحمد شاكر في تعليقه على المسند . وأخرجه أبو يعلى ح2500-4/379 قال حسين سليم أسد: رجاله ثقات

(12) انظر الاستذكار 6/4 .

 

 



بحث عن بحث