القيم في ضوء سورة الكهف  ( 5-5)

 

العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار :

تواضع الطالب للمعلم , وإشعاره بهذا التواضع يكون أدعى إلى توجه المعلم القلبي , ويبز هذا في مخاطبة موسى عليه السلام للعبد الصالح بصيغة الاستفهام ( هل أتبعك)؟

أي هل تأذن لي أن أكون لك تبعًا , ولم يقيد هذه التبعية بجانب من جوانب الصحبة أو الخدمة وإنما أطلقها , وهذا إبراز لجانب الثقة  المطلقة في المعلم والعالم .

رفع المعلم إلى مقام رفيع والاعتراف له بالأستاذية , تقديرًا لمكانة الأستاذ , وتواضع وهضم نفس من جانب الطالب , وهو من أسباب حصول النفع بإذن الله تعالى للطالب .

لأن استشعار الطالب بهذا الفارق الكبير بينه وبين معلمه يزيده حرصًا على عدم تفويت شيء مما يقوله معلمه  بينما تكبر الطالب ورؤيته نفسه أنه أعظم قدرًا أو أكثر فهمًا من أستاذه فمن الحواجب التي تحجب بين الطالب والفائدة من هذا الأستاذ .

- يقول الإمام النووي , يقول محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف : العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم .

- كان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلم تصدق بشيء وقال : اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه في(1) .

أبرز موسى عليه السلام الفرق بينه وبين العبد الصالح بقوله ( على أن تعلمني مما علمت ) فعلم الخضر عليه السلام قد تلقاه من الله جل جلاله , , يدل على ذلك السياق ( وعلمناه ) وقوله ( عُلمت ) , أما تعليم موسى يكون على يد العبد الصالح ( تعلمني ) وكأنه يقول :

إن الفرق بين علمك وعلمي كالفرق بين المعلمين , وهذا منتهى التقدير والاعتراف بالمنة , كما قيل : ( من علمني حرفًا كنت له عبدًا ) وقال شعبة : من أخذت منه أربعة أحاديث أقررت له بالعبودية حياتي .

في ( من ) التبعيضية ( مما ) إشارة إلى جانبين :

أن موسى عليه السلام لا يريد إرهاق الأستاذ ومطالبته بكل ما عنده الذي يراه الأستاذ صغيرًا أو قليلًا لكنه في حد ذاته علم راشدٌ عظيم .

وأيضًا بيان لجانب من تواضع موسى واستدرار عطف أستاذه لقبوله طالبًا عنده , فالفقير الذي يقول للغني : ( أعطني من بعض ما أعطاك الله ) يظهر قناعته باليسر ويبرز سعة ما عند الغني وأن ذلك لا يرهقه .

العلوم التي يحرص عليها هي العلوم الراشدة وهي الوسيلة إلى الفلاح , وذلك تزكية للعلم لدى العبد الصالح ( مما علمت رشدًا ) .

في تواضع موسى عليه السلام على الرغم من مكانته وشرفه في قومه والحرص الشديد الذي أظهره لطلب العلم رفع لمكانة العلم والعلماء , وبيان أن الشرف يزداد بالعلم وأن التواضع في سبيل طلبه رفع للمكانة .

على المتعلم أن لا يعترض على أستاذه في بداية الطلب ؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى حرمانه من علوم أستاذه ,  وخاصة إذا لم تتبين له الطريقة المناسبة في توجيه السؤال بحيث لا يزعج أستاذه .

وكم كان أسلوب السؤال سببًا في الغضب والحرمان والعتاب :

 فمثلًا : أسلوب بني إسرائيل في الطلب (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)[ البقرة: 68 ].

وإلى أسلوب استفسار الحواريين (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ) [المائدة 112]، فكأنه رب موسى وعيسى وليس ربهم ! علماً أن القوم مؤمنون بالله ورسالة النبي الذي يخاطبونه.

إذا شعر المعلم أن تلميذه ليس مبتدئاً وأن علومه السابقة تهيئ له كثرة الاعتراضات والمناقشات، للمعلم أن يملي عليه شروطه التي تهيئ الظروف المناسبة لأداء رسالة التعليم، وعند عدم الالتزام بالشروط له أن يشترط المفارقة.

للأستاذ أن يكشف عن جوانب النقص في معلومات تلميذه ويُعرفه بحقيقة علمه القاصر وذلك من باب التأديب لا التحقير لكيلا يأخذه الغرور العلمي.

للأستاذ أن يختبر مدى إخلاص الطالب ورغبته الصادقة في التحصيل ومدى قدرته على تحمل المشاق في سبيله ، وحدود صبره على غلظة أستاذه وجفائه. كل ذلك نأخذه من إيحاءات قول الخضر عليه السلام (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً).

إن السبب الأكبر لحصول الصبر إحاطة الإنسان علماً وخبرة بذلك الذي أُمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدري غايته ولا فائدته ولا ثمرته ليس عنده سبب الصبر.

لطالب العلم بعد الاعتماد على الله سبحانه وتعالى ربط الأمر بمشيئته أن يُري الأستاذ من نفسه الجلد والتحمل والمصابرة، وأن عين الأستاذ ستقر به وأنه سيجده حيث يحب وذلك تحدثاً بفضل الله تعالى ونعمته عليه، واستظهار رغبته الصادقة في الطلب، لا من باب تزكية النفس أو الرياء (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).


(1) التبيان في آداب حملة القرآن 23.

 

 



بحث عن بحث